جئنا بكم من قبوركم مختلطين من كل موضع ، قد اختلط المؤمن بالكافر. قال الأصمعي : اللفيف جمع وليس له واحد ، وهو مثل الجمع (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) الضمير يرجع إلى القرآن ، ومعنى (بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) أوحيناه متلبسا بالحق ومعنى (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أنه نزل وفيه الحق ، وقيل : الباء في «وبالحق» الأول بمعنى مع ، أي : مع الحق أنزلناه ، كقولهم : ركب الأمير بسيفه ، أي : مع سيفه (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي : بمحمد كما تقول نزلت بزيد. وقال أبو علي الفارسي : الباء في الموضعين بمعنى مع ، وقيل : يجوز أن يكون المعنى : وبالحق قدرنا أن ينزل وكذلك نزل ، أو ما أنزلناه من السماء إلا محفوظا ، وما نزل على الرسول إلا محفوظا من تخليط الشياطين ، والتقديم في الموضعين للتخصص (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي : مبشرا لمن أطاع بالجنة ونذيرا مخوّفا لمن عصى بالنار (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) انتصاب قرآنا بفعل مضمر يفسره ما بعده ، قرأ علي وابن عباس وابن مسعود وأبيّ بن كعب وقتادة وأبو رجاء والشعبي (فَرَقْناهُ) بالتشديد ؛ أي : أنزلناه شيئا بعد شيء لا جملة واحدة. وقرأ الجمهور فرقناه بالتخفيف ، أي : بيناه وأوضحناه ، وفرقنا فيه بين الحق والباطل. وقال الزجاج : فرقه في التنزيل ليفهمه الناس. قال أبو عبيد : التخفيف أعجب إليّ ؛ لأن تفسيره بيناه ، وليس للتشديد معنى إلا أنه نزل متفرقا. ويؤيده ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال : فرقت مخففا بين الكلام ، وفرقت مشددا بين الأجسام ، ثم ذكر سبحانه العلة لقوله : فرقناه ، فقال : (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) أي : على تطاول في المدّة شيئا بعد شيء على القراءة الأولى ، أو أنزلناه آية آية ، وسورة سورة. ومعناه على القراءة الثانية على مكث ، أي : على ترسل وتمهل في التلاوة ، فإن ذلك أقرب إلى الفهم وأسهل للحفظ. وقد اتفق القراء على ضم الميم في مكث إلا ابن محيصن فإنه قرأ بفتح الميم (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) التأكيد بالمصدر للمبالغة ، والمعنى : أنزلناه منجما مفرّقا لما في ذلك من المصلحة ، ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا ولم يطيقوا (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) أمر الله سبحانه نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يقول للكافرين المقترحين للآيات آمنوا به أو لا تؤمنوا ، فسواء إيمانكم به وامتناعكم عنه لا يزيده ذلك ولا ينقصه. وفي هذا وعيد شديد لأمره صلىاللهعليهوسلم بالإعراض عنهم واحتقارهم ، ثم علّل ذلك بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) أي : أن العلماء الذين قرءوا الكتب السابقة قبل إنزال القرآن ، وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوّة كزيد ابن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) أي : القرآن (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) أي : يسقطون على وجوههم ساجدين لله سبحانه. وإنما قيد الخرور ، وهو السقوط بكونه للأذقان ، أي : عليها ، لأن الذقن ، وهو مجتمع اللحيين ، أوّل ما يحاذي الأرض. قال الزجّاج : لأنّ الذقن مجتمع اللحيين ، وكما يبتدئ الإنسان بالخرور للسجود ، فأوّل ما يحاذي الأرض به من وجهه الذقن ؛ وقيل : المراد تعفير اللحية في التراب ، فإن ذلك غاية الخضوع ، وإيثار اللام في الأذقان على الدلالة على الاختصاص ، فكأنهم خصّوا أذقانهم بالخرور ، أو خصّوا الخرور بأذقانهم ؛ وقيل : الضمير في قوله : (مِنْ قَبْلِهِ) راجع إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، والأولى ما ذكرناه من رجوعه إلى القرآن لدلالة السياق على ذلك ، وفي هذا تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم. وحاصلها أنه إن لم يؤمن به هؤلاء الجهال الذين لا علم عندهم ولا معرفة بكتب الله ولا بأنبيائه ، فلا تبال