المذكور لك من كلامنا ، وقيل : إن كل واحد منهما قال له ذلك عقب قصّ رؤياه عليه ، فيكون الضمير راجعا إلى ما رآه كل واحد منهما ؛ وقيل : إن الضمير في بتأويله موضوع موضع اسم الإشارة ، والتقدير بتأويل ذلك (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي من الذين يحسنون عبارة الرؤيا ، وكذا قال الفراء : إن معنى من المحسنين من العالمين الذين أحسنوا العلم. وقال ابن إسحاق : من المحسنين إلينا إن فسرت ذلك ؛ أو من المحسنين إلى أهل السجن ، فقد روي أنه كان كذلك ، وجملة (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، ومعنى ذلك أنه يعلم شيئا من الغيب ، وأنه لا يأتيهما إلى السجن طعام إلا أخبرهما بماهيته قبل أن يأتيهما ، وهذا ليس من جواب سؤالهما تعبير ما قصّاه عليه ، بل جعله عليهالسلام مقدّمة قبل تعبيره لرؤياهما بيانا لعلوّ مرتبته في العلم ، وأنه ليس من المعبّرين الذين يعبّرون الرؤيا عن ظنّ وتخمين ، فهو كقول عيسى عليهالسلام : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ) (١) وإنما قال يوسف عليهالسلام لهما بهذا ليحصل الانقياد منهما له فيما يدعوهما إليه بعد ذلك من الإيمان بالله والخروج من الكفر ؛ ومعنى ترزقانه : يجري عليهما من جهة الملك أو غيره ، والجملة صفة الطعام ، أو يرزقكما الله سبحانه ، والاستثناء بقوله : (إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) مفرّغ من أعمّ الأحوال ، أي : لا يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلا حال ما نبأتكما ، أي : بيّنت لكما ماهيته وكيفيته قبل أن يأتيكما ، وسمّاه تأويلا بطريق المشاكلة ، لأن الكلام في تأويل الرؤيا ، أو المعنى : إلا نبأتكما بما يؤول إليه الكلام من مطابقة ما أخبر كما به للواقع ، والإشارة بقوله : (ذلِكُما) إلى التأويل ، والخطاب للسّائلين له عن تعبير رؤياهما (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) بما أوحاه إليّ وألهمني إياه لا من قبيل الكهانة والتّنجيم ونحو ذلك ممّا يكثر فيه الخطأ ، ثم بين لهما أن ذلك الذي ناله من هذه الرتبة العلية والعلوم الجمة هو بسبب ترك الملّة التي لا يؤمن أهلها بالله ولا بالآخرة واتباعه لملّة الأنبياء من آبائه فقال : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) وهو كلام مستأنف يتضمّن التّعليل لما قبله ، والمراد بالترك هو عدم التلبّس بذلك من الأصل ، لا أنه قد كان تلبس به ، ثم تركه كما يدلّ عليه قوله : (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ) ثم وصف هؤلاء القوم بما يدلّ على تصلبهم في الكفر وتهالكهم عليه. فقال : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي : هم مختصّون بذلك دون غيرهم لإفراطهم في الكفر بالله. وقوله : (وَاتَّبَعْتُ) معطوف على تركت ، (مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) وسمّاهم آباء جميعا لأنّ الأجداد آباء ، وقدّم الجد الأعلى ، ثم الجدّ الأقرب ثم الأب ؛ لكون إبراهيم هو أصل هذه الملّة التي كان عليها أولاده ، ثم تلقاها عنه إسحاق ثم يعقوب ، وهذا منه عليهالسلام لترغيب صاحبيه في الإيمان بالله (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ) أي ما صحّ لنا ذلك فضلا عن وقوعه ، والضّمير في لنا له وللأنبياء المذكورين ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى الإيمان المفهوم من قوله ما كان لنا أن نشرك بالله ، و (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) خبر اسم الإشارة ، أي : ناشئ من تفضّلات الله علينا ولطفه بنا بما جعله لنا من النبوّة المتضمّنة للعصمة عن معاصيه ، ومن فضل الله على الناس كافة ببعثه الأنبياء إليهم ، وهدايتهم إلى ربّهم ، وتبيين
__________________
(١). آل عمران : ٤٩.