فِيهِمْ) المراء في اللغة الجدال : يقال مارى يماري مماراة ومراء ، أي : جادل ، ثم استثنى سبحانه من المراء ما كان ظاهرا واضحا فقال : (إِلَّا مِراءً ظاهِراً) أي : غير متعمق فيه وهو أن يقصّ عليهم ما أوحى الله إليه فحسب. وقال الرازي : هو أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد ، بل يقول هذا التعيين لا دليل عليه ، فوجب التوقف ، ثم نهاه سبحانه عن الاستفتاء في شأنهم فقال : (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي : لا تستفت في شأنهم من الخائضين فيهم أحدا منهم ، لأن المفتي يجب أن يكون أعلم من المستفتي ، وهاهنا الأمر بالعكس ، ولا سيما في واقعة أهل الكهف ، وفيما قصّ الله عليك في ذلك ما يغنيك عن سؤال من لا علم له (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) أي : لأجل شيء تعزم عليه فيما يستقبل من الزمان ، فعبّر عنه بالغد ، ولم يرد الغد بعينه ، فيدخل فيه الغد دخولا أوّليا. قال الواحدي : قال المفسرون لما سألت اليهود النبيّ صلىاللهعليهوسلم عن خبر الفتية فقال : أخبركم غدا ، ولم يقل إن شاء الله ، فاحتبس الوحي عنه حتى شقّ عليه ، فأنزل الله هذه الآية يأمره بالاستثناء بمشيئة الله يقول : إذا قلت لشيء إني فاعل ذلك غدا ، فقل إن شاء الله. وقال الأخفش والمبرد والكسائي والفراء : لا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن تقول إن شاء الله ، فأضمر القول ولما حذف تقول نقل شاء إلى لفظ الاستقبال ، قيل : وهذا الاستثناء مفرّغ ، أي : لا تقولنّ ذلك في حال من الأحوال ، إلا حال ملابسته لمشيئة الله وهو أن تقول إن شاء الله ، أو في وقت من الأوقات إلا وقت أن يشاء الله أن تقوله مطلقا ؛ وقيل : الاستثناء جار مجرى التأبيد ، كأنه قيل : لا تقولنه أبدا كقوله : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١) لأن عودهم في ملّتهم ممّا لا يشاؤه الله (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) الاستثناء بمشيئة الله ؛ أي : فقل إن شاء الله ، سواء كانت المدّة قليلة أو كثيرة.
وقد اختلف أهل العلم في المدّة التي يجوز إلحاق الاستثناء فيها بعد المستثنى منه على أقوال معروفة في مواضعها ، وقيل : المعنى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) بالاستغفار (إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) المشار إليه بقوله من هذا هو نبأ أصحاب الكهف ، أي : قل يا محمد عسى أن يوفّقني ربي لشيء أقرب من هذا النبأ من الآيات والدلائل الدالة على نبوّتي. قال الزجاج : عسى أن يعطيني ربي من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب في الرشد ، وأدلّ من قصة أصحاب الكهف ، وقد فعل الله به ذلك حيث آتاه من علم غيوب المرسلين وخبرهم ما كان أوضح في الحجّة ، وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف ؛ وقيل : الإشارة إلى قوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) أي : عسى أن يهديني ربي عند هذا النسيان لشيء آخر بدل هذا المنسيّ ، وأقرب منه رشدا وأدنى منه خيرا ومنفعة ، والأوّل أولى (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) قرأ الجمهور بتنوين مائة ونصب سنين ، فيكون سنين على هذه القراءة بدلا أو عطف بيان. وقال الفرّاء وأبو عبيدة والزجاج والكسائي : فيه تقديم وتأخير ، والتقدير سنين ثلاثمائة. ورجح الأوّل أبو عليّ الفارسي. وقرأ حمزة والكسائي بإضافة مائة إلى سنين ، وعلى هذه القراءة تكون سنين تمييزا على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز ، كقوله تعالى : (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) (٢). قال الفراء : ومن العرب من يضع
__________________
(١). الأعراف : ٨٩.
(٢). الكهف : ١٠٣.