قرئ بكسر (إِنَ) على الاستئناف المقرّر لما تقدّمه ، وقرئ بفتحها وتشديدها. قال الخليل : هي في موضع نصب لمّا زال الخافض ، أي : أنا عالم بأن هذا دينكم الذي أمرتكم أن تؤمنوا به. وقال الفرّاء : «أن» متعلقة بفعل مضمر ، وتقديره : واعلموا أن هذه أمتكم. وقال سيبويه : هي متعلقة ب «فاتقون» ؛ والتقدير : فاتقون لأن أمتكم أمة واحدة. والفاء في (فَاتَّقُونِ) لترتيب الأمر بالتقوى على ما قبله من كونه ربكم المختصّ بالربوبية ، أي : لا تفعلوا ما يوجب العقوبة عليكم مني بأن تشركوا بي غيري ، أو تخالفوا ما أمرتكم به أو نهيتكم عنه. ثم ذكر سبحانه ما وقع من الأمم من مخالفتهم لما أمرهم به الرسل ، فقال : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً) والفاء لترتيب عصيانهم على ما سبق من الأمر بالتقوى ، والضمير يرجع إلى ما يدلّ عليه لفظ الأمة ، والمعنى : أنهم جعلوا دينهم مع اتّحاده قطعا متفرّقة مختلفة. قال المبرّد : زبرا : فرقا وقطعا مختلفة ، واحدها زبور ، وهي الفرقة والطائفة ، ومثله الزبرة وجمعها زبر ، فوصف سبحانه الأمم بأنهم اختلفوا ، فاتبعت فرقة التوراة ، وفرقة الزبور ، وفرقة الإنجيل ، ثم حرّفوا وبدّلوا ، وفرقة مشركة تبعوا ما رسمه لهم آباؤهم من الضلال. قرئ (زُبُراً) بضم الباء جمع زبور ، وقرئ بفتحها ، أي : قطعا كقطع الحديد (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي : كلّ فريق من هؤلاء المختلفين بما لديهم ، أي : بما عندهم من الدين فرحون ، أي : معجبون به (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) أي : اتركهم في جهلهم ، فليسوا بأهل للهداية ، ولا يضق صدرك بتأخير العذاب عنهم ، فلكلّ شيء وقت. شبّه سبحانه ما هم فيه من الجهل بالماء الذي يغمر من دخل فيه ، والغمرة في الأصل ما يغمرك ويعلوك ، وأصله الستر ، والغمر : الماء الكثير لأنه يغطي الأرض ، وغمر الرداء هو الذي يشمل الناس بالعطاء ، ويقال للحقد الغمر ، والمراد هنا : الحيرة والغفلة والضلالة ، والآية خارجة مخرج التهديد لهم ، لا مخرج الأمر له صلىاللهعليهوسلم بالكفّ عنهم ، ومعنى (حَتَّى حِينٍ) حتى يحضر وقت عذابهم بالقتل ، أو حتى يموتوا على الكفر فيعذّبون في النار (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) أي : أيحسبون إنما نعطيهم في هذه الدنيا من الأموال والبنين (نُسارِعُ) به (لَهُمْ) فيما فيه خيرهم وإكرامهم ، والهمزة للإنكار ، والجواب عن هذا مقدّر يدلّ عليه قوله : (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) لأنه عطف على مقدّر ينسحب إليه الكلام ، أي : كلّا لا نفعل ذلك ، بل هم لا يشعرون بشيء أصلا كالبهائم التي لا تفهم ولا تعقل ، فإن ما خوّلناهم من النعم وأمددناهم به من الخيرات إنما هو استدراج لهم ليزدادوا إثما ، كما قال سبحانه : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) (١). قال الزجّاج : المعنى نسارع لهم به في الخيرات ، فحذفت به ، وما في «إنما» موصولة ، والرابط هو هذا المحذوف. وقال الكسائي : إن إنما هنا حرف واحد فلا يحتاج إلى تقدير رابط. قيل : يجوز الوقف على «بنين» ، وقيل : لا يحسن لأن «يحسبون» يحتاج إلى مفعولين ، فتمام المفعولين «في الخيرات». قال ابن الأنباري : وهذا خطأ لأن «ما» كافة. وقرأ أبو عبد الرحمن السّلميّ وعبد الرحمن بن أبي بكرة «يسارع» بالياء التحتية على أن فاعله ما يدلّ عليه «نمدّ» ، وهو الإمداد ، ويجوز أن يكون
__________________
(١). آل عمران : ١٧٨.