قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ ؛) أي ألم تعلم أنّ السّفن تجري في البحر بإنعام الله تعالى ، لو لم يخلق الرّياح والماء على الهيئة التي خلقها الله عليها لما جرت السّفن على ظهر الماء ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ ؛) أي لدلالات على توحيد الله ، (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٣١) ؛ أي كثير الصّبر على الطاعات والمحن ، شكورا أي كثير الشّكر على نعم الله تعالى ، قال صلىاللهعليهوسلم : [إنّ أحبّ العباد إلى الله من إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر](١).
قوله تعالى : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ؛) أي إذا أصابهم في البحر موج كالجبال في الارتفاع دعوا الله مخلصين له الدّعاء ، (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ ؛) من البحر وأهواله ، (إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ؛) أي منهم من يثبت على ذلك ، ومنهم من يجحد. ثم قال : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا ؛) أي لا ينكر دلائل توحيدنا ، (إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ ؛) أي غدّار ، (كَفُورٍ) (٣٢) ؛ أي أكثر الكفر بآيات الله ونعمه. والختر في اللّغة : أقبح الغدر. والظّلل : جمع ظلّة وهي السّحابة التي ترتفع فتغطّي ما تحتها.
وإنّ هذه الآية كانت سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل ، وذلك أنّه لمّا كان يوم فتح مكّة ، أمّن النّبيّ صلىاللهعليهوسلم النّاس إلّا أربعة نفر ، فإنّه قال : [اقتلوهم ، ولو وجدتموهم متعلّقين بأستار الكعبة : عكرمة بن أبي جهل ، وعبد الله بن الأخطل ، ومقيس بن صبابة ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح](٢).
فأمّا عكرمة فركب في البحر ، فأصابهم ريح عاصف ، فقال أهل السّفينة : أخلصوا فإنّ آلهتكم لم تغن عنكم شيئا هاهنا ، فقال عكرمة : (لئن لم ينجّني في البحر إلّا الإخلاص ما ينجيني في البرّ غيره) ثمّ قال : (اللهمّ إنّ لك عهدا إن أنت عافيتني ممّا أنا فيه أن آتي محمّدا حتّى أضع يدي في يده) فجاء فأسلم (٣).
__________________
(١) أخرجه الطبري عن قتادة قال : (كان مطرف يقول ...) ، ينظر الأثر (٢١٤٤٩). وأبو نعيم في حلية الأولياء : ج ٢ ص ٢٠٠ من قول مطرف بن عبد الله أيضا.
(٢) السيرة النبوية لابن هشام : ج ٤ ص ٥١ ـ ٥٣.
(٣) ذكره البغوي في معالم التنزيل : ص ١٠١٥.