آخر ، وهو عشر أول (١) من ذي الحجة (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ) أي الوقت الذي وعده أن يكلمه بعده (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) ونصب (أَرْبَعِينَ) حال ، أي بالغا هذا العدد ، ونصب (لَيْلَةً) تمييز (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ) عطف بيان ، حين ذهب إلى مناجاة ربه (اخْلُفْنِي) أي كن خليفتي (فِي قَوْمِي) أي عليهم (وَأَصْلِحْ) أي أمرهم (٢) بالصلاح كما أمرتهم به (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [١٤٢] أي لا توافقهم في طريق الفساد والمعصية وأنههم عنها.
(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣))
(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) أي للوقت الذي وعدناه أن نكلمه (٣) فيه (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) بلا واسطة كما يشاء ، قيل : كان جبرائيل معه ولم يسمع ما كلمه به وسمع موسى كلامه من كل جهة (٤) ، قال ابن عباس : «كلمه أربعين يوما وليلة» (٥)(قالَ) موسى اشتياقا له من شدة التذاذه بسماع كلامه (رَبِّ أَرِنِي) نفسك (أَنْظُرْ إِلَيْكَ) بالجزم جوابا للأمر ، أي لأتمكن من رؤيتك ، وقيل : طلب الرؤية لأجل الذين كانوا معه عند قولهم لموسى «أرنا الله جهرة» ليعلموا أن لا سبيل إلى رؤيته فيمتنعوا عن السؤال ، لأنه إذا منع عنها مع قربه فغيره أولى بالمنع عنها (٦)(قالَ) الله في جواب موسى (لَنْ تَرانِي) ولم يقل (٧) لن تنظر إلى كقوله (أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ، لأن المطلوب هو الرؤية التي معها إدراك لا النظر الذي هو عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي ، لأنه قد يتخلف عنه الإدراك في بعض الصور ، وإنما قال بكلمة (لَنْ) ليدل على التأييد في الدنيا ، لأن السؤال كان فيها كما في قوله (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ)(٨) ، أي الموت أبدا ، أي في الدنيا ، ويدل على ذلك تمنيهم إياه في الآخرة لقوله (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ)(٩) ، أي بالموت ، يعني لا سبيل لك إلى النظر إلي يا موسى (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) وهو أعظم الجبال بمدين ، اسمه جبل زبير (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) أي إن لم يتزلزل (١٠) عند التجلي ، وخص الجبل ، لأن زواله أعظم وأمنع للقوم عن سؤالهم الرؤية جهرة (فَسَوْفَ تَرانِي) أي فستقدر على أن تراني وإن لم يستقر الجبل مكانه فانك لن تطيق لرؤيتي (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ) أي كشف نوره (لِلْجَبَلِ) من حجبه قدر ما بين الخنصر والإبهام إذا جمعتهما (جَعَلَهُ دَكًّا) بالمد ، أي كأرض دكاء ، أي مستوية لا شيء عليها وبالقصر مع التنوين (١١) للصرف مصدر بمعنى مدكوكا ، يعني متجزيا ، قيل : صار الجبل رملا عالجا (١٢) أو ترابا (١٣) ، أو قطعا وكانت ثماني قطع ، فوقع ثلثة منها بمكة وثلثة بالمدينة واثنتان بالشام (١٤) ، فارتعدت فرائص موسى وتغير لونه (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أي سقط مغشيا عليه لهول ما رأى (فَلَمَّا أَفاقَ) أي جاء عقله وفهمه إليه من غشيانه (قالَ سُبْحانَكَ) أي أنزهك عن الإدراك تنزيها (تُبْتُ) أي رجعت (إِلَيْكَ) من قولي («أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ومن طلب شيء لا تحتمله نفسي (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [١٤٣] بأنك لا ترى في الدنيا من بني إسرائيل.
__________________
(١) عشر أول ، ب م : العشر الأول ، س.
(٢) أي أمرهم ، م : أي مرهم ، ب س.
(٣) نكلمه ، ب س : يكلمه ، م.
(٤) اختصره المصنف من البغوي ، ٢ / ٥٣٦ ؛ والكشاف ، ٢ / ١٣٣.
(٥) انظر الكشاف ، ٢ / ١٣٣.
(٦) قد اختصره من الكشاف ، ٢ / ١٣٣.
(٧) ولم يقل ، ب س : وإنما لم يقل ، م.
(٨) البقرة (٢) ، ٩٥.
(٩) الزخرف (٤٣) ، ٧٧.
(١٠) أي إن لم يتزلزل ، س : أي لم يتزلزل ، ب ، أي لم تتزلزل ، م.
(١١) «دكا» : قرأ الأخوان وخلف بهمزة مفتوحة بعد الألف وبحذف التنوين ، والباقون بحذف الهمزة والمد وباثبات التنوين. البدور الزاهرة ، ١٢٣.
(١٢) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ١ / ٥٦٨ ؛ والبغوي ، ٢ / ٥٣٩.
(١٣) عن عطية العوفي ، انظر البغوي ، ٢ / ٥٣٩.
(١٤) هذا مأخوذ عن البغوي ، ٢ / ٥٣٩.