(وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٨٣)
ونبه على تقدم قدمهم فيها بتقديمهم على المشركين (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) أي علماء وعبّادا (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) علل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودتهم للمؤمنين بأن منهم قسيسين ورهبانا ، وأن فيهم تواضعا واستكانة ، واليهود على خلاف ذلك ، وفيه دليل على أنّ العلم أنفع شيء وأهداه إلى الخير وإن كان علم القسيسين وكذا علم الآخرة وإن كان في راهب (١) ، والبراءة من الكبر وإن كانت في نصراني.
٨٣ ـ (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) وصفهم برقة القلوب وأنهم يبكون عند استماع القرآن ، كما روي عن النجاشي أنه قال لجعفر بن أبي طالب حين اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى الحبشة والمشركون وهم يقرأونه عليهم : هل في كتابكم ذكر مريم؟ قال جعفر : فيه سورة تنسب إلى مريم فقرأها إلى قوله : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) (٢) وقرأ سورة طه إلى قوله : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) (٣) فبكى النجاشي ، وكذلك فعل قومه الذين وفدوا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهم سبعون رجلا حين قرأ عليهم سورة يس فبكوا. تفيض من الدمع تمتلئ من الدمع حتى تفيض ، لأن الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه ، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء ، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء ، فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها أي تسيل من أجل البكاء ، ومن في مما عرفوا لابتداء الغاية على أنّ فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق وكان من أجله ، ومن في من الحقّ لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا ، أو للتبعيض على أنّهم عرفوا بعض الحقّ فأبكاهم فكيف إذا عرفوا كله وقرأوا القرآن وأحاطوا بالسنة (يَقُولُونَ) حال من ضمير الفاعل في عرفوا (رَبَّنا آمَنَّا) بمحمد صلىاللهعليهوسلم والمراد إنشاء الإيمان والدخول فيه (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) مع أمة محمد عليهالسلام الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (٤) وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك.
__________________
(١) الذي في الكشاف : وكذلك غم الآخرة والتحدث بالعاقبة إن كان في راهب.
(٢) مريم ، ١٩ / ٣٤.
(٣) طه ، ٢٠ / ٩.
(٤) البقرة ، ٢ / ١٤٣.