(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢٥)
يأباه ، وأما المروءة فعادات الناس في ذلك متباينة وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم ، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) أي ظلّ سمرة (١) ، وفيه دليل جواز الاستراحة في الدنيا بخلاف ما يقوله بعض المتقشّفة ، ولما طال البلاء عليه أنس بالشكوى ، إذ لا نقص في الشكوى إلى المولى (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما) لأي شيء (أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ) قليل أو كثير غثّ أو سمين (فَقِيرٌ) محتاج ، وعدّي فقير باللام لأنه ضمّن معنى سائل وطالب ، قيل كان لم يذق طعاما سبعة أيام وقد لصق ظهره بطنه (٢) ، ويحتمل أن يريد أني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إلي من خير الدارين (٣) وهو النجاة من الظالمين ، لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة ، قال ذلك رضا بالبدل السنيّ وفرحا به وشكرا له ، وقال ابن عطاء : نظر من العبودية إلى الربوبية ، وتكلّم بلسان الافتقار لما ورد على سرّه من الأنوار.
٢٥ ـ (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) على استحياء في موضع الحال أي مستحية ، وهذا دليل كمال إيمانها وشرف عنصرها ، لأنها كانت تدعوه إلى ضيافتها ولم تعلم أيجيبها أم لا ، فأتته مستحية قد استترت بكمّ درعها ، وما في سقيت مصدرية أي جزاء سقيك ، روي أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفّل (٤) قال لهما : ما أعجلكما؟ قالتا : وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا ، فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي ، فتبعها موسى عليهالسلام فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته ، قال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أي قصته وأحواله مع فرعون ، والقصص مصدر كالعلل سمّي به المقصوص (قالَ) له (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) إذ لا سلطان لفرعون بأرضنا ، وفيه دليل جواز العمل بخبر الواحد ولو عبدا أو أنثى ، والمشي مع الأجنبية مع ذلك الاحتياط والتورع ، وأما أخذ الأجر على البرّ والمعروف
__________________
(١) سمرة : ضرب من شجر الطلح (النهاية في غريب الحديث ٢ / ٣٩٩).
(٢) في (ظ) و (ز) لصق بظهره بطنه.
(٣) في (ز) الدين.
(٤) حفل : أي مملوءة ضروعها باللبن.