على ان الجميع ( أعم مما في نفس الانسان أو في غيره ) مملوكة لربه ، لا استقلال لشئ منها وفيها ، بل الكل ممن ليس عنده الا الحسن والبهاء والجمال والخير على ما يليق بعزتة وجلاله ، ولا يترشح من لدنه الا الجميل والخير ، فإذا نظر إليها وهي هكذا لم ير مكروها يكرهه ولا مخوفا يخافه ، ولا مهيبا يهابه ، ولا محذورا يحذره ، بل يرى كل ما يراه حسنا محبوبا الا ما يأمره ربه أن يكرهه ويبغضه ، وهو مع ذلك يكرهه لامره ، ويحب ما يحب ويلتذ ويبتهج بأمره ، لا شغل له إلا بربه ، كل ذلك لما يرى الجميع ملكا طلقا لربه لا نصيب ولا حظ لشئ غيره في شئ منها ، فما له ولمالك الامر وما يتصرف به في ملكه ؟ من احياء واماتة ، ونفع وضر وغيرها ، فهذه هي الحيوة الطيبة التي لا شقاء فيها البتة وهي نور لا ظلمة معه ، وسرور لا غم معه ، ووجدان لا فقد معه ، وغنى لا فقر معه كل ذلك بالله سبحانه ، وفي مقابل هذه الحيوة حيوة الجاهل بمقام ربه ، إذ هذا المسكين بانقطاعه عن ربه لا يقع بصره على موجود من نفسه وغيره الا رآه مستقلا بنفسه ضارا أو نافعا خيرا أو شرا فهو يتقلب في حيوته بين الخوف عما يخاف فوته ، والحذر عما يحذر وقوعه ، والحزن لما يفوته ، والحسرة لما يضيع عنه من جاه أو مال أو بنين أو اعوان وساير ما يحبه ويتكل ويعتمد عليه ويؤثره.
كلما نضج جلده بالاعتياد بمكروه والسكون إلى مرارة بدل جلدا غيره ، ليذوق العذاب بفؤاد مضطرب قلق ، وحشى ذائب محترق ، وصدر ضيق حرج ، كأنما يصعد في السماء ، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون.
إذا عرفت هذا علمت : أن مرجع الامرين أعني نسيان الميثاق وشقاء الحيوة الدنيا واحد ، وان الشقاء الدنيوي من فروع نسيان الميثاق.
وهذا هو الذي يشعر به كلامه سبحانه حيث أتى بالتكليف الجامع لاهل الدنيا في سورة طه فقال تعالى : ( فاما يأتينكم مني هدى فمن إتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ).
وبدل ذلك في هذه السورة بقوله : ( فمن إتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ).