على أن هنا نظرا أدق من ذلك ، وهو ان الذي ينسب إلى الانسان ويعد اختياريا له ، هو الافعال ، وأما الصفات والملكات الحاصلة من تكرر صدورها فليست اختيارية بحسب الحقيقة ، فمن الجائز أو الواجب ان ينسب إليه تعالى ، وخاصة إذا كانت من الحسنات والخيرات التي نسبتها إليه تعالى ، أولى من نسبتها إلى الانسان ، وعلى ذلك جرى ديدن القرآن ، كما في قوله تعالى : ( رب اجعلني مقيم الصلوة ومن ذريتي ) إبراهيم ـ ٤٠ ، وقوله تعالى : ( وألحقني بالصالحين ) الشعراء ـ ٨٣ ، وقوله تعالى : ( رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي ، وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضيه ) النمل ـ ١٩ ، وقوله تعالى : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك الآية ) ، فقد ظهر ان المراد بالاسلام غير المعنى الذي يشير إليه قوله تعالى : ( قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم ) الحجرات ـ ١٤ ، بل معنى أرقي وأعلى منه سيجئ بيانه.
قوله تعالى : وأرنا مناسكنا وتب علينا. انك أنت التواب الرحيم ، يدل على ما مر من معنى الاسلام أيضا ، فأن المناسك جمع منسك بمعنى العبادة ، كما في قوله تعالى : ( ولكل امة جعلنا منسكا ) الحج ـ ٣٤ ، أو بمعنى المتعبد ، أعني الفعل المأتي به عبادة وإضافة المصدر يفيد التحقق ، فالمراد بمناسكنا هي الافعال العبادية الصادرة منهما والاعمال التي يعملانها دون الافعال ، والاعمال التي يراد صدورها منهما ، فليس قوله : أرنا بمعنى علمنا أو وفقنا ، بل التسديد بارائة حقيقة الفعل الصادر منهما ، كما أشرنا إليه في قوله تعالى : ( وأوحينا إليهم فعل الخيرات ، وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة ) الانبياء ـ ٧٣ ، وسنبينه في محله : ان هذا الوحي تسديد في الفعل ، لاتعليم للتكليف المطلوب ، وكأنه إليه الاشارة بقوله تعالى : ( واذكر عبادنا إبراهيم ، وإسحق ، ويعقوب ، أولي الايدي والابصار. انا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ) ص ـ ٤٦.
فقد تبين ان المراد بالاسلام والبصيرة في العبادة ، غير المعنى الشائع المتعارف ، وكذلك المراد بقوله تعالى : وتب علينا ، لان إبراهيم وإسماعيل كانا نبيين معصومين بعصمة الله تعالى ، لا يصدر عنهما ذنب حتى يصح توبتهما منه ، كتوبتنا من المعاصي