( بيان )
قوله تعالى : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ، الرغبة ، إذا عديت بعن أفادت معنى الاعراض والنفرة ، وإذا عديت بفي أفادت : معنى الشوق والميل ، وسفه يأتي متعديا ولازما ، ولذلك ذكر بعضهم أن قوله : نفسه مفعول لقوله : سفه ، وذكر آخرون أنه تمييز لا مفعول ، والمعنى على أي حال : أن الاعراض عن ملة إبراهيم من حماقة النفس ، وعدم تمييزها ما ينفعها مما يضرها ومن هذه الآية يستفاد معنى ما ورد في الحديث أن العقل ما عبد به الرحمن.
قوله تعالى : ولقد اصطفيناه في الدنيا ، الاصطفاء أخذ صفوة الشئ وتمييزه عن غيره إذا اختلطا ، وينطبق هذا المعنى بالنظر إلى مقامات الولاية على خلوص العبودية وهو أن يجري العبد في جميع شؤونه على ما يقتضيه مملوكيته وعبوديته من التسليم الصرف لربه ، وهو التحقق بالدين في جميع الشؤون فإن الدين لا يشتمل إلا على مواد العبودية في امور الدنيا والآخرة وتسليم ما يرضيه الله لعبده في جميع اموره كما قال الله تعالى : ( إن الدين عند الله الاسلام ) آل عمران ـ ١٩ ، فظهر : أن مقام الاصطفاء هو مقام الاسلام بعينه ويشهد بذلك قوله تعالى : ( إذ قال له ربه أسلم ، قال أسلمت لرب العالمين الآية ) فإن الظاهر أن الظرف متعلق بقوله : اصطفيناه ، فيكون المعنى أن إصطفائه إنما كان حين قال له ربه : أسلم ، فأسلم لله رب العالمين فقوله تعالى : إذ قال له ربه أسلم : قال أسلمت لرب العالمين ، بمنزله التفسير لقوله : اصطفيناه.
وفي الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة في قوله : إذ قال له ربه أسلم ، ولم يقل إذ قلنا له أسلم ، والتفات آخر من الخطاب إلى الغيبة في المحكي من قول إبراهيم : قال أسلمت لرب العالمين ، ولم يقل : قال أسلمت لك اما الاول ، فالنكتة فيه : الاشارة إلى أنه كان سرا استسر به ربه إذ أسره إليه فيما خلى به معه فإن للسامع المخاطب اتصالا بالمتكلم فإذا غاب المتكلم عن صفة حضوره انقطع المخاطب عن مقامه وكان بينه وبين ما للمتكلم من الشأن والقصة ستر مضروب ، فأفاد : أن القصة من مسامرات الانس وخصائص الخلوة.