حق لا ريب فيه لكنه لا ينتج انتفاء النفس المجردة التي اقيم البرهان على وجودها ، فإن العلوم الطبيعية الباحثة عن أحكام الطبيعة وخواص المادة إنما تقدر على تحصيل خواص موضوعها الذي هو المادة ، وإثبات ما هو من سنخها ، وكذا الخواص والادوات المادية التي نستعملها لتتميم التجارب المادي إنما لها أن تحكم في الامور المادية ، وأما ما وراء المادة والطبيعة ، فليس لها أن تحكم فيها نفيا ولا إثباتا ، وغاية ما يشعر البحث المادي به هو عدم الوجدان ، وعدم الوجدان غير عدم الوجود ، وليس من شأنه كما عرفت أن يجد ما بين المادة التي هي موضوعها ، ولا بين أحكام المادة وخواصها التي هي نتائج بحثها أمر أمجردا خارجا عن سنخ المادة وحكم الطبيعة.
والذي جرأهم على هذا النفي زعمهم أن المثبتين لهذه النفس المجردة إنما أثبتوها لعثورهم إلى أحكام حيوية من وظائف الاعضاء ولم يقدروا على تعليلها العلمي ، فأثبتوا النفس المجردة لتكون موضوعا مبدئا لهذه الافاعيل ، فلما حصل العلم اليوم على عللها الطبيعية لم يبق وجه للقول بها ، نظير هذا الزعم ما زعموه في باب إثبات الصانع.
وهو اشتباه فاسد فإن المثبتين لوجود هذه النفس لم يثبتوها لذلك ولم يسندوا بعض الافاعيل البدنية إلى البدن فيما علله ظاهرة ، وبعضها إلى النفس فيما علله مجهولة ، بل أسندوا الجميع إلى العلل البدنية بلا واسطة وإلى النفس بواسطتها ، وإنما اسندوا إلى النفس ما لا يمكن إسناده إلى البدن ألبتة وهو علم الانسان بنفسه ومشاهدته ذاته كما مر.
وأما قولهم : إن الانية المشهودة للانسان على صفة الوحدة هي عدة من الادراكات العصبية الواردة على المركز على التوالي وفي نهاية السرعة ـ ولها وحدة اجتماعية ـ فكلام لا محصل له ولا ينطبق عليه الشهود النفساني البتة ، وكأنهم ذهلوا عن شهودهم النفساني فعدلوا عنه إلى ورود المشهودات الحسية إلى الدماغ واشتغلوا بالبحث عما يلزم ذلك من الآثار التالية وليت شعري إذا فرض أن هناك امورا كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها ألبتة ، وهذه الامور الكثيرة التي هي الادراكات امور مادية ليس ورائها شئ آخر إلا نفسها ، وإن الامر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه