الأوّل : أنّه لمّا اعتقد الأشعري أنّ حكم العقل لا حكم له في التحسين والتقبيح ، وأنّ البارئ يفعل لا لغرض ، وأنّ العباد لا حاجة بهم إلى العبادة ، بل جوّزوا مثوبة الجاحد وعقوبة العابد ؛ لم يمكنهم عند ذلك أن يجعلوا للعبادة وجها سوى الأمر والنهي ؛ لأنّهم أسقطوا العلل العقليّة ، ولم يجعلوا الأوامر معلّلة بشيء منها.
قال : ( ولعلّ الباعث على هذا القول ليس هو هذا البناء ، وإنّما نظر إلى القول بالشكر فاستحقر جميع العبادات بالنظر إلى عظمة الله سبحانه وتعالى ، وأنّها لا توازي ذرّة من جبال نعمه ، ولا قطرة من بحار كرمه.
ونظر إلى القول باللّطف فوجده غير مطّرد في حقّ من ثبتت عصمته ، أو ظنّ قيام غيره من الألطاف مقامه ، وسمع قوله تعالى : ( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ) (١) ).
أقول : هذا [ هو ] الأصل الثاني الذي عليه مذهب الأشعري ، وهو أنّه نظر إلى المذهبين السالفين فلم يرتض بهما ، بل وجّه الطعن إلى كلّ واحد منهما.
أمّا الشكر : فإنّه لا يوازي أقلّ نعمة ، ولا أصغر منه.
وأمّا اللّطف : فمن ثبتت عصمته ، أو ظنّ قيام غيره مقامه لا حاجة به إليه.
وسمع هذا القائل الآية الكريمة ( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ) ، فلو طلبنا لفعله وجها وغاية لكان ذلك في معنى السؤال ، ونحن نقول لا يلزم من عدم موازاة الشكر للنعم عدم كونه وجها ؛ ويكون بحسب المقدور والميسور ، وما خرج عن ذلك خصّ المقدور عنه بمنفصل عقلي ، والعصمة لمّا كانت لطفا يفعله الله بالمكلّف جاز كون العبادة سببا في ذلك اللطف ، أو قسما من السبب ، ومن ظنّ غناه عنه بغيره لا تنفعه الآية ؛ [ و ] لمّا لم يوصله إلى المطلوب فيه ، لم يعتقد الغنى عنه. وقد تقدّم حصر اللّطف فيه.
( لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ) ليس نهيا ؛ لعدم الجزم فيكون خبرا ، فإن تعلّق بدار الدنيا
__________________
(١) الأنبياء (٢١) : ٢٣.