به من المكر والخديعة حتى هاج به الوجد والأسف وأخذته الغيرة الإلهية فدعا عليهم فقال : « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً » : نوح : ٢٧.
وما ذكره من إضلالهم عباد الله إن تركهم الله على الأرض هو الذي ذكره عنهم في ضمن كلامه السابق المحكي عنه : « وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً » وقد أضلوا كثيرا من المؤمنين به فخاف إضلالهم الباقين منهم ، وقوله : « وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً » إخبار ببطلان استعداد أصلابهم وأرحامهم أن يخرج منها مؤمن ؛ ذكره ـ وهو من أخبار الغيب ـ عن تفرس نبوي ووحي إلهي.
وإذا دعا على الكافرين لغيرة إلهية أخذته ، وهو النبي الكريم أول من جاء بكتاب وشريعة ، وانتهض لإنقاذ الدنيا من غمرة الوثنية ولم يلبه من المجتمع البشري إلا قليل ـ وهو قريب من ثمانين نسمة على ما في الأخبار ـ فكان من أدب هذا الموقف أن لا ينسى المؤمنين بربه الآخذين بدعوته ، ويدعو لهم إلى يوم القيامة بالخير.
فقال : « رَبِّ اغْفِرْ لِي » فبدأ بنفسه لأن الكلام في معنى طلب المغفرة لمن يسلك سبيله فهو إمامهم وأمامهم « وَلِوالِدَيَّ » وفيه دليل على إيمانهما « وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً » وهم المؤمنون به من أهل عصره « وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ » وهم جميع المؤمنين أهل التوحيد فإن قاطبتهم أمته ، ورهن منته إلى يوم القيامة ، وهو أول من أقام الدعوة الدينية في الدنيا بكتاب وشريعة ، ورفع أعلام التوحيد بين الناس ، ولذلك حياة الله سبحانه بأفضل تحيته إذ قال : « سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ » : الصافات : ٧٩ فعليه السلام من نبي كريم كلما آمن بالله مؤمن ، أو عمل له بعمل صالح ، وكلما ذكر لله عز اسمه اسم ، وكلما كان في الناس من الخير والسعادة رسم ؛ فذلك كله من بركة دعوته ، وذنابة نهضته ، صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أجمعين.
ومن ذلك ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم عليهالسلام في محاجته قومه : « (قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ، أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ، وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ، رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي