لا بل ظاهر الآيات أن الحسنة تظهر ثقلا في الميزان والسيئة خفة فيه كما هو ظاهر قوله : « فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ » ونظيره قوله تعالى : « فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ » : المؤمنون : ١٠٣ ، وقوله تعالى : « فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ » : القارعة : ١١ ، فالآيات ـ كما ترى ـ تثبت الثقل في جانب الحسنات دائما والخفة في جانب السيئات دائما.
ومن هناك يتأيد في النظر أن هناك أمرا آخر تقايس به الأعمال والثقل له فما كان منها حسنة انطبق عليه ووزن به وهو ثقل الميزان ، وما كان منها سيئة لم ينطبق عليه ولم يوزن به وهو خفة الميزان كما نشاهده فيما عندنا من الموازين فإن فيها مقياسا وهو الواحد من الثقل كالمثقال يوضع في إحدى الكفتين ثم يوضع المتاع في الكفة الأخرى فإن عادل المثقال وزنا بوجه على ما يدل عليه الميزان أخذ به وإلا فهو الترك لا محالة ، والمثقال في الحقيقة هو الميزان الذي يوزن به ، وأما القبان وذو الكفتين ونظائرهما فهي مقدمة لما يبينه المثقال من حال المتاع الموزون به ثقلا وخفة كما أن واحد الطول وهو الذراع أو المتر مثلا ميزان يوزن به الأطوال فإن انطبق الطول على الواحد المقياس فهو وإلا ترك.
ففي الأعمال واحد مقياس توزن به فللصلاة مثلا ميزان توزن به وهي الصلاة التامة التي هي حق الصلاة ، وللزكاة والإنفاق نظير ذلك ، وللكلام والقول حق القول الذي لا يشتمل على باطل ، وهكذا كما يشير إليه قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ » : آل عمران : ١٠٢.
فالأقرب إلى هذا البيان أن يكون المراد بقوله : « وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ » أن الوزن الذي يوزن به الأعمال يومئذ إنما هو الحق فبقدر اشتمال العمل على الحق يكون اعتباره وقيمته والحسنات مشتملة على الحق فلها ثقل كما أن السيئات ليست إلا باطلة فلا ثقل لها ، فالله سبحانه يزن الأعمال يومئذ بالحق فما اشتمل عليه العمل من الحق فهو وزنه وثقله.