كذلك الملك من ملوكنا لحقيقية ملكه تعالى واعتبارية ملك غيره.
ففي عالم الكون على اختلاف مراحل مرحلة تنتهي إليها جميع أزمة الحوادث الملقاة على كواهل الأسباب ، وأزمة الأسباب على اختلاف أشخاصها وأنواعها ، وترتب مراتبها هو المسمى عرشا كما سيجيء ، وفيه صور الأمور الكونية المدبرة بتدبير الله سبحانه كيفما شاء ، وعنده مفاتح الغيب.
فقوله تعالى : « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ » كناية عن استيلائه على ملكه وقيامه بتدبير الأمر قياما ينبسط على كل ما دق وجل ، ويترشح منه تفاصيل النظام الكوني ينال به كل ذي بغية بغيته ، وتقضي لكل ذي حاجة حاجته ، ولذلك عقب حديث الاستواء في سورة يونس في مثل الآية بقوله : « يُدَبِّرُ الْأَمْرَ » إذ قال : « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ » : يونس : ٣.
ثم فصل بقوله : « يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ » ويستره به « يَطْلُبُهُ » أي يطلب الليل النهار ليغشيه ويستره « حَثِيثاً » أي طلبا حثيثا سريعا ، وفيه إشعار بأن الظلمة هي الأصل ، والنهار الذي يحصل من إنارة الشمس ما يواجهها مما حولها ، عارض لليل الذي هو الظلمة المخروطية اللازمة لأقل من نصف كرة الأرض المقابل للجانب المواجه للشمس كان الليل يعقبه ويهجم عليه.
وقوله : « وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ » أي خلقهن والحال أنها مسخرات بأمره يجرين على ما يشاء ولما يشاء وقرئ الجميع بالرفع ، وعلى ذلك فالشمس مبتدأ والقمر والنجوم معطوفة عليها ، ومسخرات خبره ، والباء في قوله : « بِأَمْرِهِ » للسببية.
ومجموع قوله : « يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ » إلخ ، يجري مجرى التفسير لقوله : « ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ » على ما يعطيه السياق ، وهو الذي تعطيه أغلب الآيات القرآنية التي يذكر فيها العرش فإنها تذكر معه شيئا من التدبير أو ما يئول إليه بحسب المعنى.
قوله تعالى : « أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ » ـ الخلق ـ هو التقدير بضم شيء إلى شيء وإن استقر ثانيا في عرف الدين وأهله في معنى الإيجاد أو الإبداع على غير مثال سابق ، وأما ـ الأمر ـ فيستعمل في معنى الشأن وجمعه أمور ، ومصدرا بمعنى يقرب من بعث الإنسان غيره نحو ما يريده يقال أمرته بكذا أمرا ، وليس من البعيد