أمره جمع منهم ، فرضي عنهم بذلك وأقرهم على مكانتهم ، واستكبر بعضهم فخطأ الملك في أمره فلم يمتثله معتلا بأنه أشرف منه جوهرا وأغزر عملا فغضب عليه وطرده عن نفسه وضرب عليه الذلة والصغار لأن الملك إنما يطاع ملك بيده زمام الأمر وإليه إصدار الفرامين والدساتير ، وليس يطاع لأن ما أمر به يطابق المصلحة الواقعية فإنما ذلك شأن الناصح الهادي إلى الخير والرشد.
وبالتأمل في هذا المثل ترى أن خاصة الملك ـ أعم من المطيع والعاصي ـ كانوا متفقين قبل صدور الأمر في منزلة القرب مستقرين في مستوى الخدمة وحظيرة الكرامة من غير أي تميز بينهم حتى أتاهم الأمر من ذي العرش فينشعب الطريق عند ذلك إلى طريقين ويتفرقون طائفتين : طائفة مطيعة مؤتمرة ، وأخرى عاصية مستكبرة وتظهر من الملك بذلك سجاياه الكامنة ووجوه قدرته وصور إرادته من رحمة وغضب وتقريب وتبعيد وعفو ومغفرة وأخذ وانتقام ووعد ووعيد وثواب وعقاب ، والحوادث كالمحك يظهر باحتكاكه جوهر الفلز ما عنده من جودة أو رداءة.
فقصة سجود الملائكة وإباء إبليس تشير إلى حقائق تشابه بوجه ما يتضمنه هذا المثل من الحقائق والأمر بالسجدة فيها تشريفه تعالى آدم بقرب المنزلة ونعمة الخلافة وكرامة الولاية تشريفا أخضع له الملائكة وأبعد منه إبليس لمضادة جوهر السعادة الإنسانية فصار يفسد الأمر عليه كلما مسه ويغويه إذا اقترب منه كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله.
وقد عبر الله سبحانه عن إنفاذه أمر التكوين في مواضع من كلامه بلفظ الأمر أو ما يشبه ذلك كقوله : « فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ » : حم السجدة : ١١ ، وقوله : « إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها » : الأحزاب : ٧٢ وأشمل من الجميع قوله : « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » : يس : ٨٢.
فإن قلت : رفع اليد عن ظاهر القصة وحملها على جهة التكوين المحضة يوجب التشابه في عامة كلامه تعالى ، ولا مانع حينئذ يمنع من حمل معارف المبدإ والمعاد بل والقصص والعبر والشرائع على الأمثال ، وفي تجويز ذلك إبطال للدين.