والوسط إنما يكون وسطا بطرفه ، وقول القائل : إنما الحسن ما أمر به الله والقبيح ما نهى عنه فلو أمر بما هو قبيح عقلا ضروريا كالظلم كان حسنا ، ولو نهى عن حسن بالضرورة العقلية كالعدل كان قبيحا كما لو قال قائل : إن الله لو سلك بالإنسان نحو الهلاك والفناء كان فيه حياته السعيدة ، ولو منعه عن سعادته الخالدة الحقيقية عادت السعادة شقاوة.
فالحق الذي لا محيص عنه في المرحلتين : أن العقل النظري مصيب فيما يشخصه ويقضي به من المعارف الحقيقية المتعلقة به تعالى فإنا إنما نثبت له تعالى ما نجده عندنا من صفة الكمال كالعلم والقدرة والحياة ، واستناد الموجودات إليه وسائر الصفات الفعلية العليا كالرحمة والمغفرة والرزق والإنعام والهداية وغير ذلك على ما يهدي إليه البرهان.
غير أن الذي نجده من الصفات الكمالية لا يخلو عن محدودية وهو تعالى أعظم من أن يحيط به حد ، والمفاهيم لا تخلو عنه لأن كل مفهوم مسلوب عن غيره منعزل عما سواه ، وهذا لا يلائم الإطلاق الذاتي فتوسل العقل إلى رفع هذه النقيصة بشيء من النعوت السلبية تنزيها ، وهو أنه تعالى أكبر من أن يوصف بوصف ، وأعظم من أن يحيط به تقييد وتحديد فمجموع التشبيه والتنزيه يقربنا إلى حقيقة الأمر ، وقد تقدم في ذيله قوله تعالى : « لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ » : المائدة : ٧٣ ، من غرر خطب أمير المؤمنين علي عليهالسلام ما يبين هذه المسألة بأوفى بيان ويبرهن عليها بأسطع برهان فراجعه إن شئت. هذا كله في العقل النظري.
وأما العقل العملي فقد عرفت أن أحكام هذا العقل جارية في أفعاله تعالى التشريعية غير أنه تعالى إنما شرع ما شرع واعتبر ما اعتبر لا لحاجة منه إليه بل ليتفضل به على الإنسان مثلا وهو ذو الفضل العظيم فيرتفع به حاجة الإنسان فله سبحانه في تشريعه غرض لكنه قائم بالإنسان الذي قامت به الحاجة لا به تعالى ، ولتشريعاته مصالح مقتضية لكن المنتفع بها هو الإنسان دونه كما تقدم.
وإذا كان كذلك كان للعقل أن يبحث في أطراف ما شرعه من الأحكام ويطلب الحصول على الحسن والقبح والمصلحة والمفسدة فيها لكن لا لأن يحكم عليه فيأمره وينهاه ويوجب ويحرم عليه كما يفعل ذلك بالإنسان إذ لا حاجة له تعالى إلى كمال مرجو