حذف وجه الشبه من الذكر وذكر ما لا حاجة إليه مع وقوع اللبس ، وسيجيء إن شاء الله توضيح ذلك.
وظاهر البدء في قوله : « بَدَأَكُمْ » أول خلقة الإنسان الدنيوية لا مجموع الحياة الدنيوية قبال الحياة الأخروية فيكون البدء هو الحياة الدنيا والعود هو الحياة الأخرى فيكون المعنى كنتم في الدنيا مخلوقين له هدى فريقا منكم وحقت الضلالة على فريق آخر كذلك تعودون كما يئول إليه قول من قال : « إن معنى الآية : تبعثون على ما متم عليه : المؤمن على إيمانه ، والكافر على كفره ».
وذلك أن ظاهر البدء إذا نسب إلى شيء ذي امتداد واستمرار بوجه أن يقع على أقدم أجزاء وجوده الممتد المستمر لا على الجميع ، والخطاب للناس فبدؤهم أول خلقة النوع الإنساني وبدء ظهوره. على أن الآية من تتمة الآيات التي يبين الله سبحانه فيها بدء إيجاده الإنسان بمثل قوله : « وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ » إلخ ، فالمراد به كيفية البدء التي قصها في أول كلامه ، وقد كان من القصة أن الله قال لإبليس لما رجمه : « اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ » وفيه قضاء أن ينقسم بنو آدم فريقين فريقا مهتدين على الصراط المستقيم ، وفريقا ضالين حقا فهذا هو الذي بدأهم به وكذلك يعودون.
وقد بين ذلك في مواضع أخر من كلامه أوضح من ذلك وأصرح كقوله : « قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ » : الحجر : ٤٢ ، وهذا قضاء حتم وصراط مستقيم إن الناس طائفتان طائفة ليس لإبليس عليهم سلطان وهم الذين هداهم الله ، وطائفة متبعون لإبليس غاوون وهم المقضي ضلالهم لاتباعهم الشيطان وتوليهم إياه قال : « كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ » : الحج : ٤ ، وإنما قضي ضلالهم إثر اتباعهم وتوليهم لا بالعكس كما هو ظاهر الآية.
ونظيره في ذلك قوله تعالى : « قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ » : ص : ٨٥ ، فإنه يدل على أن هناك قضاء بتفرقهم فريقين ، وهذا التفرق هو الذي فرع تعالى عليه قوله إذ قال : « قالَ اهْبِطا مِنْها » « ... فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً