« لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ».
مدفوع بأن صحة إقامة الحجة بعينها حجة على عدم كون سعادة السعيد وشقاوة الشقي لازمة ضرورية فإن السعادة والشقاوة لو كانتا من لوازم الذوات لم تحتاجا في لحوقهما إلى حجة إذ لا حجة في الذاتيات فتلغو الحجة ، وكذا لو كانتا لازمتين للذوات بقضاء لازم أزلي لا لاقتضاء ذاتي من الذوات كانت الحجة للناس على الله سبحانه فتلغو الحجة منه تعالى فصحة إقامة الحجة من قبله سبحانه تكشف عن عدم ضرورية شيء من السعادة والشقاوة بالنظر إلى ذات الإنسان مع قطع النظر عن أعماله الحسنة والسيئة واعتقاداته الحقة والباطلة.
على أن توسل الإنسان بالفطرة إلى مقاصد الحياة بمثل التعليم والتربية والإنذار والتبشير والوعد والوعيد والأمر والنهي وغير ذلك أوضح دليل على أن الإنسان في نفسه على ملتقى خطين ومنشعب طريقين : السعادة والشقاوة وفي إمكانه أن يختار أيا منهما شاء وأن يسلك أيا منهما أراد ولكل سعي جزاء يناسبه قال تعالى : « وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى ». : النجم : ٤١ فهذا نوع من الارتباط مستقر بين الأعمال والملكات وبين الذوات ، وهناك نوع آخر من الارتباط مستقر بين الأعمال والملكات وبين الأوضاع والأحوال والعوامل الخارجة عن الذات الإنسانية المستقرة في ظرف الحياة وجو العيش كالآداب والسنن والرسوم والعادات التقليدية فإنها تدعو الإنسان إلى ما يوافقها وتزجره عن مخالفتها ولا تلبث دون أن تصوره صورة جديدة ثانية تنطبق أعماله على الأوضاع والأحوال المحيطة به المجتمعة المؤتلفة في ظرف حياته.
وهذه الرابطة على نحو الاقتضاء غالبا غير أنها ربما يستقر استقرارا لا مطمع في زوالها من جهة رسوخ الملكات الرذيلة أو الفاضلة في نفس الإنسان ، وفي كلامه تعالى ما يشير إلى ذلك كقوله : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ » البقرة : ٧ إلى غير ذلك.
ولا يضر ذلك صحة إقامة الحجة عليهم بالدعوة والإنذار والتبشير لأن امتناع تأثير الدعوة فيهم مستند إلى سوء اختيارهم والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.