قلت : لا دليل من جهة السياق اللفظي على كون المراد بالرزق في قوله : « كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ » هي الثمرة في غير موسمها ، وأن الذي دعا زكريا عليهالسلام إلى طلب الولد مشاهدة ذلك أو قول مريم : « إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ » ولو كان كذلك لكانت الإشارة إليه بوجه أبلغ بل ظاهر السياق وخاصة صدر الآية « فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً » أن العناية بإفادة كون مريم ذات كرامة عند ربها يرزقها لا من طريق الأسباب العادية فهذا هو الداعي لزكريا عليهالسلام إلى طلب ذرية طيبة وولد رضي.
ولو سلم ذلك كان مقتضاه أن ينبعث زكريا بالقصد الأول إلى طلب الذرية والولد وإذ كان نبيا كريما لا إربة له في غير الولد الصالح دعا ثانيا أن يكون طيبا مرضيا كما يدل عليه استئناف الدعاء بقوله : « وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا » والتقييد بالطيب في قوله : « ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ».
وقد أفاد مقصوده هذا على ما حكى عنه في سورة آل عمران بقوله : « هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً » وفي هذه السورة بعد تقديم ذكر شيخوخته وعقر امرأته وخوفه الموالي بقوله : « فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي » فالمراد بقوله : « وَلِيًّا يَرِثُنِي » هو الولد بلا شك ، وقد عبر عنه وأشير إليه بعنوان ولاية الإرث.
وولاية الوراثة التي تصلح أن تكون عنوانا معرفا للولد هي ما يختص به من ولاية وراثة التركة ، وأما ولاية وراثة النبوة لو جازت تسميتها ولاية وراثة وكذا ولاية وراثة العلم كما يرث التلميذ علم أستاذه وكذا ولاية وراثة المقامات المعنوية والكرامات الإلهية فهذه الولايات أجنبية عن النسب والولادة ربما جامعتها وربما فارقتها فلا تصلح أن تجعل معرفة ومرآة لها إلا مع قرينة قوية ، وليس في الكلام ما يصلح لذلك ، وكل ما فرض صالحا له فهو صالح لخلافه فيكون قد أهمل في الدعاء ما هو المقصود بالقصد الأول واشتغل بما وراءه ، وكفى به سقوطا للكلام.
قوله تعالى : « يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا » في الكلام حذف إيجازا ، والتقدير : « فاستجبنا له وناديناه يا زكريا إنا نبشرك » إلخ ،