في الجواب ولم يتعرض لمشكلة الولادة التي كانوا يكرون بها على مريم عليهالسلام لأن نطقه على صباه وهو آية معجزة وما أخبر به من الحقيقة لا يدع ريبا لمرتاب في أمره على أنه سلم في آخر كلامه على نفسه فشهد بذلك على نزاهته وأمنة من كل قذارة وخباثة ومن نزاهته طهارة مولده.
وقد بدأ بقوله : « إِنِّي عَبْدُ اللهِ » اعترافا بالعبودية لله ليبطل به غلو الغالين وتتم الحجة عليهم ، كما ختمه بمثل ذلك إذ يقول : « وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ».
وفي قوله : « آتانِيَ الْكِتابَ » إخبار بإعطاء الكتاب والظاهر أنه الإنجيل ، وفي قوله : « وَجَعَلَنِي نَبِيًّا » إعلام بنبوته ، وقد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب الفرق بين النبوة والرسالة ، فقد كان يومئذ نبيا فحسب ثم اختاره الله للرسالة ، وظاهر الكلام أنه كان أوتي الكتاب والنبوة لا أن ذلك إخبار بما سيقع.
قوله تعالى : « وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا » كونه عليهالسلام مباركا أينما كان هو كونه محلا لكل بركة والبركة نماء الخير كان نفاعا للناس يعلمهم العلم النافع ويدعوهم إلى العمل الصالح ويربيهم تربية زاكية ويبرئ الأكمه والأبرص ويصلح القوي ويعين الضعيف.
وقوله : « وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ » إلخ ، إشارة إلى تشريع الصلاة والزكاة في شريعته ، والصلاة هي التوجه العبادي الخاص إلى الله سبحانه والزكاة الإنفاق المالي وهذا هو الذي استقر عليه عرف القرآن كلما ذكر الصلاة والزكاة وقارن بينهما وذلك في نيف وعشرين موضعا فلا يعتد بقول من قال : إن المراد بالزكاة تزكية النفس وتطهيرها دون الإنفاق المالي.
قوله تعالى : « وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا » أي جعلني حنينا رءوفا بالناس ومن ذلك أني بر بوالدتي ولست جبارا شقيا بالنسبة إلى سائر الناس ، والجبار هو الذي يحمل الناس ولا يتحمل منهم ، ونقل عن ابن عطاء أن الجبار الذي لا ينصح والشقي الذي لا ينتصح.
قوله تعالى : « وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا » تسليم منه على نفسه في المواطن الثلاثة الكلية التي تستقبله في كونه ووجوده ، وقد تقدم توضيحه