أنحاء. الشّرك في الألوهية ، والشّرك في وجوب الوجود ، والشرك في التدبير ، والشّرك في العبادة. وليس أحد أثبت لله تعالى شريكا يساويه في الألوهية والوجوب والقدرة والحكمة إلاّ الثنوية ، فإنّهم يثبتون إلهين أحدهما حكيم يفعل الخير والثاني سفيه يفعل الشّرّ ، ويسمّون الأول باسم يزدان والثاني باسم أهرمن وهو الشيطان بزعمهم. وأمّا الشّريك في العبادة والتدبير ففي الذاهبين إليه كثرة. فمنهم عبدة الكواكب وهم فريقان ، منهم من يقول إنّه سبحانه خلق هذه الكواكب وفوّض تدبير العالم السّفلي إليها ، فهذه الكواكب هي المدبّرات لهذا العالم ، قالوا فيجب علينا أن نعبد هذه الكواكب تعبّدا لله ونطيعه ، وهؤلاء هم الفلاسفة. ومنهم قوم غلاة ينكرون الصانع ويقولون هذه الأفلاك والكواكب أجسام واجبة الوجود لذواتها ويمتنع عليها العدم فهي المدبّرة لأحوال العالم السّفلي وهؤلاء هم الدّهرية الخالصة. وممّن يعبد غير الله النصارى الذين يعبدون المسيح ومنهم أيضا عبدة الأوثان.
ولا بدّ من بيان سبب عبادة الأوثان ، إذ عبادة الأحجار من جمّ غفير عقلاء ظاهر البطلان ، وقد ذكروا لها وجوها. الوجه الأوّل أنّ الناس لمّا رأوا تغيّرات هذا العالم منوطة ومربوطة بتغييرات أحوال الكواكب فإنّ بحسب قرب الشمس وبعدها عن سمت الرأس تحدث الفصول الأربعة التي بسببها تحدث الأحوال المختلفة في هذا العالم. ثم إنّ الناس رصدوا أحوال سائر الكواكب فاعتقدوا انبساط السعادات والنحوسات بكيفيّة وقوعها في طوالع الناس على أحوال مختلفة. فلما اعتقدوا ذلك غلبت على ظنونهم أنّ مبدأ الحوادث هو الاتصالات الكوكبية ، فبالغوا في تعظيمها. فمنهم من اعتقادها واجبة الوجود لذواتها وهي خلقت هذا العالم. ومنهم من اعتقد حدوثها وكونها مخلوقة للإله الأكبر إلاّ أنها هي المدبّرة لأحوال هذا العالم ؛ وهؤلاء هم الذي أثبتوا الوسائط بين الإله الأكبر وبين أحوال هذا العالم. ثم إنّهم لمّا رأوا أنّ هذه الكواكب قد تغيب عن الأبصار في أكثر الأوقات اتخذوا لكلّ كوكب صنما من الجوهر المنسوب إليه كاتخاذهم صنم الشمس من الذهب والياقوت والألماس ، ثم اشتغلوا بعبادة تلك الأصنام. وغرضهم منها عبادة تلك الكواكب والتقرّب إليها. وأمّا الأنبياء فلهم مقامان : أحدهما إقامة الدليل على أنّ هذه الكواكب لا تأثير لها البتة في أحوال هذا العالم لما قال الله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (١) بعد أن بيّن أنها مسخّرات. وثانيهما أنّ بتقدير تأثيرها دلائل الحدوث حاصلة فيها فوجب كونها مخلوقة. والاشتغال بعبادة الخالق أولى من الاشتغال بعبادة المخلوق. في الكشاف في تفسير قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢). النّد المماثل في الذات المخالف في الصفات. فإن قلت كانوا يسمّون أصنامهم باسمه ويعظمونها بما يعظّم به من القرب ، وما كانوا يزعمون أنّها تخالف الله وتناديه؟ قلت : لمّا تقرّبوا إليها وعظّموها وسمّوها آلهة اشتبهت (٣) حالهم حال من يعتقد أنّها آلهة مثله قادرة على مخالفته ومضادّته ، فقيل لهم ذلك على سبيل التّهكم. الوجه الثاني ما ذكره أبو معشر (٤) وهو أنّ كثيرا
__________________
(١) الأعراف / ٥٤.
(٢) البقرة / ٢٢.
(٣) اشبهت (م).
(٤) هو جعفر بن محمد بن عمر البلخي ، أبو معشر. مات بواسط عام ٢٧٢ هـ / ٨٨٦ م. عالم فلكي مشهور. له تصانيف كثيرة ومشهورة. الأعلام ٢ / ١٢٧ ، الفهرست ١ / ٢٧٧ ، القفطى ١٠٦ ، وفيات الأعيان ١ / ١١٢ ، دائرة المعارف الإسلامية ١ / ٤٠٤.