من أهل الصين والهند كانوا يثبتون الإله والملائكة إلاّ أنّهم يعتقدون أنه تعالى جسم ذو صورة حسنة وكذا الملائكة ، لكنهم احتجبوا عنّا بالسماوات فاتخذوا صورا وتماثيل ، فيتّخذون صورة في غاية الحسن ويقولون إنّها هيكل الإله وصورة أخرى دونها في الحسن ويجعلونها صورة الملائكة ، ثم يواظبون على عبادتها قاصدين بتلك العبادة الزّلفى من الله وملائكته. فالسبب على عبادة الأوثان على هذا اعتقاد أنّ الله سبحانه جسم وفي مكان. الوجه الثالث أنّ القوم يعتقدون أنّ الله فوّض تدبير كلّ من الأقاليم إلى ملك معيّن وفوّض تدبير كلّ قسم من أقسام العالم إلى روح سماوي بعينه ، فيقولون مدبّر البحار ملك ، ومدبّر الجبال ملك آخر وهكذا ، فاتخذوا لكلّ واحد من الملائكة المدبّرة صنما مخصوصا ، ويطلبون من كلّ صنم ما يليق بذلك الروح الكلّي. وللقوم هاهنا تأويلات أخر تركناها لمخافة الإطناب.
اعلم أنّهم اختلفوا في أنّ لفظ المشرك يتناول الكفّار من أهل الكتاب فأنكر بعضهم ذلك وقال : اسم المشرك لا يتناول إلاّ عبدة الأوثان لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) (١) الآية. فالله تعالى عطف المشركين على أهل الكتاب ، والعطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه. والأكثرون من العلماء على أنّ المشرك يتناول الكفار من أهل الكتاب أيضا ، وهو المختار. قال أبو بكر الأصم (٢) كلّ من جحد رسالته فهو مشرك ، قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٣). فقد دلّت الآية على أنّ ما سوى الشّرك قد يغفر (٤) الله تعالى في الجملة. فلو كان كفر اليهود والنصارى ليس بشرك لوجب أن يغفر لهم الله تعالى في الجملة ، وذلك باطل.
والجواب عن الآية بوجهين : الأول أنّ لفظ المشركين عطف على الذين الخ ، والمعنى أنّ الذين كانوا مؤمنين بنبي من الأنبياء أو كانوا من أهل الكتاب ثم كفروا بمحمد صلىاللهعليهوآله وأصحابه وسلّم ولم يؤمنوا به فأشركوا ، به ، وإنّ الذين كانوا مشركين من الابتداء كلاهما في نار جهنم الخ. والثاني أنّ عطف المشركين على أهل الكتاب من قبيل عطف العام على الخاص ، والمعنى أنّ الذين كفروا من أهل الكتاب وجميع المشركين سواء كانوا من أهل الكتاب كاليهود والنصارى وعبدة الأوثان كلّهم في نار جهنم. ثم القائلون بدخول اليهود والنصارى تحت اسم المشرك اختلفوا على قولين : فقال قوم وقوع هذا الاسم عليها (٥) من حيث اللغة. وقال الجبائي والقاضي هذا الاسم من جملة الأسماء الشّرعية لأنّه تواتر النقل عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنّه كان يسمّي كلّ من كان كافرا بالمشرك ، وقد كان في الكفار من لا يثبت إلها أصلا أو كان شاكّا في وجوده ، أو كان شاكّا في وجود الشّريك. وقد كان فيهم من كان عند البعثة منكرا للبعث والقيمة ، فلا جرم كان منكرا للبعثة وللتكليف ، وما كان يعبد شيئا من الأوثان. وعابدوا الأوثان فيهم من كانوا لا يقولون إنّهم شركاء الله في الخلق ، وتدبير العالم ، بل كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند
__________________
(١) البينة / ٦.
(٢) هو عبد الرحمن بن كيسان ، أبو بكر الأصم. توفي نحو ٢٢٥ هـ / نحو ٨٤٠ م. فقيه معتزلي مفسّر ، فصيح اللسان. كانت له مناظرات مع العلاّف. له عدة كتب. الأعلام ٣ / ٣٢٣ ، طبقات المعتزلة ٥٦ ، لسان الميزان ٣ / ٤٢٧.
(٣) النساء / ٤٨.
(٤) يغفره (م).
(٥) عليهما (م).