وفي خلاصة السلوك الحلال هو الذي قد انقطع عنه حقّ الغير. وقال سهل ما لا تعصى الله فيه. قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : (من أكل الحلال أربعين يوما نوّر الله قلبه وتجري ينابيع الحكمة من قلبه) (١) انتهى. قال ابن الحجر في شرح الأربعين للنووي في شرح الحديث السادس : الحلال ضد الحرام لغة وشرعا. والحلال البيّن أي الظاهر هو ما نصّ الله تعالى ورسوله أو أجمع المسلمون على تحليله بعينه أو جنسه. ومنه أيضا ما لم يعلم فيه منع على أسهل القولين. والحرام البيّن ما نصّ أو أجمع على تحريمه بعينه أو جنسه ، أو على أنّ فيه حدّا أو تعزيرا أو وعيدا. والمشتبه ما ليس بواضح. الحلّ والحرمة مما تنازعته الأدلة وتجاذبته المعاني والأسباب ، فبعضها يعضده دليل الحرام وبعضها يعضده دليل الحلال. ومن ثمّ فسّر أحمد وإسحاق (٢) وغيرهما المشتبه بما اختلف في حلّ أكله كالخيل أو شربه كالنبيذ أو لبسه كجلود السباع أو كسبه كبيع العينة. وفسّره أحمد مرّة باختلاط الحلال والحرام. وحكم هذا أنّه يخرج قدر الحرام ويأكل الحلال عند كثيرين من العلماء سواء قلّ الحرام أم كثر. ومن المشتبه معاملة من في ماله حرام. فالورع تركه مطلقا وإن جازت. وقيل واعتمده الغزالي إن كان أكثر ماله الحرام حرمت معاملته. ثم الحصر في الثلاثة صحيح لأنّه إن نصّ أو أجمع على الفعل فالحلال ، أو على المنع جازما فالحرام ، أو سكت عنه أو تعارض فيه نصّان ولم يعلم المتأخّر منهما فالمشتبه. وليس المراد بتعارضها تقابلها على جهة واحدة في الترجيح ، فإنّ هذا كلام متناقض ، بل المراد التعارض بحيث يتخيّل الناظر في ابتداء نظره فإذا حقّق فكره رجح. والمشتبهات لا يعلمهنّ كثير من الناس لتعارض الأدلّة. وأمّا العلماء فيعرفون حكمها بنصّ أو إجماع أو قياس أو استصحاب ونحوها. فإذا تردّد شيء بين الحلّ والحرمة ولم يكن فيه نصّ ولا إجماع اجتهد المجتهد فيه وأخذ بأحدهما بالدليل الشرعي فيصير حلالا أو حراما. وقد يكون دليله غير خال عن الاحتمال فيكون الورع تركه. وما لم يظهر لمجتهد فيه شيء فهو باق على اشتباهه بالنسبة إلى العلماء وغيرهم ، كشيء وجده في بيته ولم يدر هل هو له أو لغيره ، وحينئذ اختلفوا فيما يأخذ به ، فقيل بحلّه والورع تركه ، وقيل بحرمته لأنّه يوقع في الحرام ، وقيل لا يقال فيه واحد منهما ، قال القرطبي (٣) والصواب الأوّل. قال المصنف أي النووي الظاهر أنّ هذا الخلاف مخرّج على الخلاف في الأشياء قبل ورود الشرع وفيه أربعة مذاهب. الأول وهو الأصح أنّه لا يحكم بتحليل ولا تحريم ولا إباحة ولا غيرها ، لأنّ التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلاّ بالشرع. والثاني أنّ الحكم الحلّ والإباحة. قال القرطبي دليل الحلّ أنّ الشرع أخرجها من قسم الحرام ، وأشار إلى أنّ الورع تركها بقوله : (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك). (٤) وممن عبّر بأنّها حلال
__________________
(١) اتحاف السادة المتقين ٦ / ٧ ، المغني عن حمل الأسفار للعراقي ٢ / ٩٠ ، موسوعة أطراف الحديث ٨ / ١٣٤.
(٢) هو اسحاق بن ابراهيم بن مخلد الحنظلي التميمي المروزي ، أبو يعقوب ابن راهويه. ولد عام ١٦١ هـ / ٧٧٨ م. وتوفي بنيسابور عام ٢٣٨ هـ / ٨٥٣ م. عالم خراسان في عصره. أحد كبار حفاظ الحديث ، ثقة فيه. له بعض التصانيف. الاعلام ١ / ٢٩٢ ، تهذيب ابن عساكر ٢ / ٤٠٩ ، ميزان الاعتدال ١ / ٨٥ ، وفيات الاعيان ١ / ٦٤ ، حلية الأولياء ٩ / ٢٣٤.
(٣) هو محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي ، ابو عبد الله القرطبي. توفي بمصر عام ٦٧١ هـ / ١٢٧٣ م. من كبار المفسرين ، فقيه ، متعبد صالح. له مؤلفات هامة. الاعلام ٥ / ٣٢٢ ، نفح الطيب ١ / ٤٢٨ ، الديباج ٣١٧
(٤) اخرجه النسائي ٨ / ٣٢٧ ـ ٣٢٨ في الأشربة ، باب الحث على ترك الشبهات. الترمذي ٢٥٢٠ في صفة القيامة باب اعقلها وتوكل. مسند أحمد ١٧٢٣ وصحّحه ابن حبان ٥١٢ ، الحاكم ٢ / ١٣.