يتورّع عنها أراد بالحلال مطلق الجائز الشامل للمكروه بدليل قوله : (يتورّع عنها) (١) لا المباح المستوي الطرفين لأنّه لا يتصوّر فيه ورع ما داما مستويين ، بخلاف ما إذا ترجّح أحدهما. فإن كان الراجح الترك كره أو الفعل نذب. والثالث المنع. والرابع التوقّف. ولقد أطنب ابن الحجر هاهنا الكلام وذكر أقسام المشتبهات مفصلا. فمن أراد فليرجع إلى شرحه المذكور. وقال العيني (٢) في شرح البخاري في كتاب العلم في شرح هذا الحديث بعد ذكر أكثر الأقوال المذكورة : فحصل لنا مما تقدّم ذكره أنّ في المتشابهات المذكورة في الحديث التي ينبغي اجتنابها أقوالا. أحدها أنّها التي تعارضت فيها الأدلة فاشتبهت ، فمثل هذا يجب فيه الوقف إلى الترجيح لأنّ الإقدام على أحد الأمرين من غير رجحان الحكم بغير دليل محرم. وثانيها أنّها المكروهات وهو قول الخطابي والمازري (٣) وغيرهما ويدخل فيه مواضع اختلاف العلماء. وثالثها أنّها المباحات. وقال بعضهم هي حلال يتورّع عنها ، وقد ردّه القرطبي واختار القول الثاني. فإن قيل هذا يؤدّي إلى رفع معلوم من الشرع وهو أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والخلفاء بعد وأكثر أصحابه عليهمالسلام كانوا يزهدون في التنعّم في المآكل وغيره. قلت ذلك محمول على موجب شرعي اقتضى ترجيح الترك على الفعل فلم يزهدوا في مباح ، لأنّ حقيقته التساوي ، بل في أمر مكروه. ولكن المكروه تارة يكرهه الشرع من حيث هو وتارة يكرهه لأنّه يؤدّي إليه كالقبلة للصائم فإنّها مكروهة لما يخاف منها من إفساد الصوم. وقد اختلف أصحاب الشافعي رحمهالله في ترك الطّيب وترك لبس الناعم ، فقيل ليس بطاعة وقيل إنّه طاعة. وقال ابن الصّبّاغ (٤) يختلف ذلك باختلاف أحوال الناس وتفرّغهم للعبادة واشتغالهم بالضيق والسعة. وقال الرافعي (٥) من أصحابنا هو الصواب. وأما ما يخرج إلى باب الوسوسة من تجويز الأمر البعيد ، فهذا ليس من الشبهات المطلوب اجتنابها ، كترك النكاح من نساء بلدكم خوفا عن أن يكون له فيها محرم بنسب أو رضاع أو مصاهرة ، وترك استعمال ماء لجواز عروض النجاسة ، إلى غير ذلك ممّا يشتبه بهذا بأن يكون سبب التحريم فيه مجرّد توهّم ليس من الورع. قال القرطبي الورع في مثل هذا وسوسة شيطانية إذ ليس فيه من معنى الشّبهة شيء ، وسبب الوقوع في ذلك عدم العلم بالمقاصد الشرعية انتهى. ويجيء ما يتعلّق بهذا في لفظ الشبهة والورع.
__________________
(١) متابعة لمعنى الحديث السابق.
(٢) هو محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد ، أبو محمد ، بدر الدين العيني الحنفي. ولد عام ٧٦٢ هـ / ١٣٦١ م. وتوفي بالقاهرة عام ٨٥٥ هـ / ١٤٥١ م. مؤرخ ، علاّمة ، من كبار المحدثين قاض. له الكثير من المؤلفات. الاعلام ٧ / ١٦٣ ، التبر المسبوك ٣٧٥ ، الضوء اللامع ١٠ / ١٣١ ، شذرات الذهب ٧ / ٢٨٦ ، اعلام النبلاء ٥ / ٢٥٥ ، الجواهر المضية ٢ / ١٦٥.
(٣) هو محمد بن علي بن عمر التميمي المازري ، أبو عبد الله. ولد عام ٤٥٣ هـ / ١٠٦١ م. وتوفي عام ٥٣٦ هـ / ١١٤١ م. محدث ، من فقهاء المالكية. له عدة مؤلفات قيّمة. الاعلام ٦ / ٢٧٧ ، وفيات الاعيان ١ / ٤٨٦ ، أزهار الرياض ٣ / ١٦٥.
(٤) هو عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد ، أبو نصر ، ابن الصباغ. ولد ببغداد عام ٤٠٠ هـ / ١٠١٠ م. وفيها توفي عام ٤٧٧ هـ / ١٠٨٤ م. فقيه شافعي. درّس بالمدرسة النظامية وعمي آخر حياته. له عدة مؤلفات ، الاعلام ٤ / ١٠ ، وفيات الاعيان ١ / ٣٠٣ ، طبقات الشافعية ٣ / ٢٣٠ ، مفتاح السعادة ٢ / ١٨٥.
(٥) هو عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم ، أبو القاسم الرافعي القزويني. ولد عام ٥٥٧ هـ / ١١٦٢ م. وتوفي بقزوين عام ٦٢٣ هـ / ١٢٢٦ م. فقيه ، من كبار الشافعية ، مفسّر ومحدث. له مصنفات كثيرة وهامة. الاعلام ٤ / ٥٥ ، مفتاح السعادة ١ / ٤٤٣ ، طبقات الشافعية ٥ / ١١٩ ، هدية العارفين ١ / ٦٠٩.