وقد ابتدأ الوحي بالرؤيا الصالحة لمدة ستة أشهر ، والنسبة بينهما هي ١ / ٤٦. ولكن «التوريشي» يعترض قائلا : إنّ تعيين مدة النبي (محمد صلىاللهعليهوسلم) بثلاث وعشرين سنة مسلّم لأنّه ورد في روايات يعتدّ بها ، أمّا كون الرؤيا وتعيينها في هذه المدة بستة أشهر فشيء من عند قائله ولا توجد أي رواية أو نصّ مؤيّد لذلك. انتهى.
والحاصل : هو أنّه من أجل تعيين المدّة المذكورة لا يوجد أصل أو سند صحيح. نعم ولكن مذهب أكثر أهل الحديث أنّه صلىاللهعليهوسلم خلال الأشهر الستة الأولى كان في رتبة النبوة الخاصة ، وكان مكلّفا بتهذيب نفسه خاصّة ثم بعد ذلك أمر بالدعوة والبلاغ أي بالرسالة. وليس في مذهبهم لزوم كون النبي داعيا ومبلّغا إذا كان ما يوحى إليه خاصّ به وحده لتهذيب نفسه فهو كاف لتحقّق مرتبة النبوة. وعليه فإن ثبت أنّ الوحي خلال الأشهر الستة الأولى كان في المنام فقط ، ثبت وصح حينئذ كلام القائل بذلك.
ولكن محلّ هذا الكلام وفقا لمذهبهم (أهل الحديث). فإذن فالأحوط في باب تخصيص العدد المذكور ١ / ٤٦ هو التفويض لعلم النبوّة ، لأنّ أمثال هذه العلوم من خواص الأنبياء ، ولا يوصل بالقياس العقلي ، إلى كنهها.
وهكذا أيضا حكم الأعداد في جميع المواضع مثل أعداد الركعات في الصلاة والتسبيحات وأعداد أنصبة الزكاة ومقادير الزكاة وعدد الطواف في الحجّ ورمي الجمار والسّعي وأمثال ذلك.
ويقول صاحب «المواهب اللدنية» : ذكر العلماء مراتب الوحي وطرائقها فعدّوا ٤٦ نوعا ، والرؤيا الصادقة واحدة منها.
قال النبي صلىاللهعليهوسلم : (من رآني في المنام فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثّل في صورتي) متفق عليه.
وقال بعض أرباب التحقيق : إنّ الشيطان يستطيع التمثّل بصورة الرّبّ ، ويكذب ويوقع الرائي في الوسوسة بأنّ ما يراه هو الحقّ ، ولكن إبليس لا يستطيع أبدا أن يتمثّل بصورة النبي صلىاللهعليهوسلم كما لا يستطيع الكذب عليه ، وذلك لأنّ النبي مظهر للهداية والشيطان مظهر للضلال ، وبين الهداية والضلال تباين. أما الحقّ جلّ وعلا فهو مطلق أي أنّه جامع لصفات الهداية والإضلال وجميع الصفات المتعارضة. ثم إنّ دعوى الألوهية من الكائنات البشرية المخلوقة صريحة البطلان وليست محلّ شبهة بخلاف دعوى النبوة.
ولهذا إذا ادّعى أحدهم بدعوى الألوهية فيتصوّر حينئذ صدور خوارق العادات منه كما هو حال فرعون وأمثاله ، وكما سيكون من المسيح الدجال فيما بعد. وأمّا ادعاء النبوة كذبا فلا تصاحبها معجزة ظاهرة. وإذا صاحبها خرق للعادة فإنما يكون على خلاف دعوى المدّعي وعلى عكس توقّع المعتقدين. ولذا يقال لخرق العادة للكذاب إهانة ، كما حصل لمسيلمة الكذّاب ، فقد قال له من حوله : إنّ محمدا تفل على عين رمداء فشفيت ، فافعل أنت مثله ، ففعل ، فعميت عين ذلك الرجل التي تفل فيها. ثم قالوا له ثانية : إنّ محمدا تفل في بئر غائر ماؤها ، ففاضت مياه البئر حتى بلغت أعلى البئر ، فافعل مثله. ففعل فجفّت البئر تماما.
ثم اعلم بأنّ ثمة أحاديث كثيرة تدلّ على أنّ كلّ من رأى النبي صلىاللهعليهوسلم في النوم فقد رآه حقا ، ولا يوجد في الأمر أيّ كذب أو شكّ أو بطلان. وابليس الذي يقدر على التصوّر بعدّة صور سواء في النوم أو في اليقظة فذلك من عمله وخصائصه. ولكنه لا يستطيع أن يتشكّل بصورة النبي أبدا ولا أن يكذب عن لسانه ، ويلقى بذلك في خيال الرائي. وقد عدّ جمهور