عبده به بعد ما فني فناء مطلقا عن ذاته ، وتطهّر من زخارف الدنيا ، حتى يترقّى بعد ذلك إلى عالم الاتصاف بالأوصاف الإلهية ، ويتخلّق بالأخلاق الرّبّانيّة (١).
وعند الأصوليين وأهل النظر هو من مسالك إثبات العلّة ويسمّى بالسير والتقسيم أيضا وبالتقسيم أيضا وبالترديد أيضا. فالتسمية بالسير فقط أو بالتقسيم فقط أو بالترديد فقط إمّا تسمية الكلّ باسم الجزء وإمّا اكتفاء عن التعبير عن الكلّ بذكر الجزء ، كما تقول قرأت ألم وتريد سورة مسماة بذلك ، ويفسّر بأنّه حصر الأوصاف الموجودة في الأصل الصالحة للعليّة في عدد ثم إبطال علّية بعضها لتثبت علّية الباقي. وعند التحقيق الحصر راجع إلى التقسيم والسّير إلى الإبطال. وحاصله أن تتفحّص أولا أوصاف الأصل أي المقيس عليه. ويردّد بأنّ علّة الحكم فيه هل هذه الصفة أو تلك أو غير ذلك ثم تبطل ثانيا علّة (٢) كلّ صفة من تلك الصفات حتى يبقى وصف واحد ، فيستقر ويتعيّن للعلّية. فيستفاد من تفحّص أوصاف الأصل وترديدها لعلّية الحكم وبطلان الكلّ دون واحد منها أنّ هذا الوصف علّة للحكم دون الأوصاف الباقية ، كما يقال علّة حرمة الخمر إمّا الاتخاذ من العنب ، أو الميعان ، أو اللون المخصوص ، أو الطعم المخصوص ، أو الريح المخصوص ، أو الإسكار. لكنّ الأول ليس بعلّة لوجوده في الدّبس بدون الحرمة ، وكذلك البواقي ما سوى الإسكار ، فتعيّن الإسكار لعلّية الحرمة في الخمر ، هكذا في شرح التهذيب لعبد الله اليزدي.
فإن قيل المفروض أنّ الأوصاف كلّها صالحة لعلّية ذلك الحكم والإبطال نفي لذلك ، لأنّ معناه بيان عدم صلوح البعض فتناقض. قلنا المراد (٣) بصلوح الكلّ صلوحه في بادئ الرأي وبعدم صلوح البعض عدمه بعد التأمّل والتفكّر فلا تناقض. وبالجملة فالسير والتقسيم هو حصر الأوصاف الصالحة للعلّية في بادئ الرأي ثم إبطال بعضها بعد النظر والتأمّل ، كما تقول في قياس الذرة على البرّ في الربوية بحثت عن أوصاف البرّ فما وجدت ثمة علّة للربوية في بادئ الرأي إلاّ الطّعم أو القوت أو الكيل ، لكن الطّعم أو القوت لا يصلح لذلك عند التأمّل فتعيّن الكيل ، لأنّ الأشياء التي يوجد فيها الطعم والتي يحصل منها القوت من أعظم وجوه المنافع لأنها أسباب بقاء الحيوان ووسائل حياة النفوس ، فالسبيل في أمثالها الإطلاق بأبلغ الوجوه والإباحة بأوسع طرائق التحصيل لشدة الاحتياج إليها وكثرة المعاملات فيها دون التضييق فيها ، لقوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٤) وقوله تعالى (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٥) وقوله عليهالسلام لعليّ ومعاذ حين أرسلهما إلى اليمن : «يسّرا ولا تعسّرا» (٦) ، والقول المجتهدين والمشقّة تجلب التيسير ، هكذا في الهداية وحواشيه. وهناك مقامان أحدهما بيان الحصر ويكفي في ذلك أن يقول بحثت فلم أجد سوى
__________________
(١) ودر توضيح المذاهب آرد سير إلى الله وقتى منتهي شود كه باديه وجود بقدم صدق يكبارگى قطع كند وسير في الله آنگاه متحقق شود كه او سبحانه تعالى بنده را بعد از فناي مطلق ذاتي مطهر از آلايش حدثان ارزاني فرمايد تا بدان در عالم اتصاف باوصاف إلهي وتخلق باخلاق رباني ترقي كند.
(٢) علية (م).
(٣) المقصود (م ، ع).
(٤) البقرة / ١٨٥.
(٥) الحج / ٧٨.
(٦) صحيح البخاري ، كتاب الأدب ، باب قول النبي يسّروا ولا تعسروا ، ح (١٤٨) ، ٨ / ٥٥.