واشتد ذلك عليهم فمكثوا بذلك حولا ، فأنزل الله عزوجل الفرج والراحة بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها). فنسخت الآية ما قبلها. فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله عزوجل قد تجاوز لأمّتي ما حدّثوا به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلّموا به» (١). وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة وعائشة وابن عباس برواية سعيد بن جبير وعطاء ، ومن التابعين وأتباعهم محمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة وقتادة والكلبي وشيبة.
قال سعيد بن مرجانة : بينما نحن جلوس عند عبد الله بن عمر إذ تلا هذه الآية (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ).
فقال ابن عمر : إن أخذنا الله بها لنهلكن ، ثم بكا حتّى سمع. قال ابن مرجانة : فذكرت ذلك لابن عباس فقال : يغفر الله لأبي عبد الرحمن فقد وجد المسلمون منها حين نزلت مثل ما وجد فأنزل الله (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها). وكانت الوسوسة ممّا لا طاقة للمسلمين بها ، فصار الأمر إلى القول والفعل به فنسخت تلك الآية.
وقال بعضهم : هذه الآية محكمة غير منسوخة ، لأن النسخ والأخبار غير جائز إلّا في خبر فيه أمر أو نهي أو شرط. ثم اختلفوا في وجه تأويلها فقال قوم من أهل المعاني : قد اثبت الله عزوجل للقلب كسبا فقال : (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ). وكلّ عامل مأخوذ بكسبه ومجازى على عمله ، [فلا تظنّ] الله عزوجل بتارك عبدا يوم القيامة أسرّ أمرا أو أعلنه من حركة في جوارحه أو [همسة] في قلبه دون أن يعرّفه إياه ويخبره به ، ثم يغفر ما شاء لمن يشاء ويعذّب من شاء بما يشاء.
معنى الآية : وإن تظهروا ما في أنفسكم من [المعاصي] فتعملوه أي تضمروا إرادتها في أنفسكم فتخفوها يخبركم به ويحاسبكم عليه ، ثم يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء.
وهذا معنى قول الحسن ، والربيع ، وقيس بن أبي حازم ، ورواية الضحاك عن ابن عباس ، يدلّ عليه قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٢).
وقال آخرون : معنى الآية إن الله تعالى يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم وأخفوه ، ويعاقبهم عليه غير أن معاقبته إيّاهم على ما أخفوه ممّا لم يعملوها ، بما يحدث في الدنيا من النوائب والمصائب والأمور التي يحزنون عليها ويألمون بها ، وهذا قول عائشة ، روي بأنّها سئلت عن هذه الآية فقالت : ما سألت عنها أحد فقد سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «يا
__________________
(١) أسباب النزول للواحدي : ٦١.
(٢) سورة الإسراء : ٣٦.