فنظر عبد المطّلب فقال : أرى طيرا بيضا نشأت من شاطئ البحر قال : ارمقها ببصرك أين قرارها؟ قال : أراها قد أزرّت على رؤوسنا. قال : هل تعرفها؟ قال : والله ما أعرفها ما هي نجديّة ولا تهاميّة ولا عربية ولا شامية وإنها لطير بأرضنا غير مؤنسة.
قال : ما قدّها؟ قال : أشباه اليعاسيب في منقارها حصى كأنها حصى الحذق قد أقبلت كاليلل تكسع بعضها بعضا ، أمام كل طير ، يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق ، فجاءت حتى إذا حاذت بعسكر القوم ركدت فوق رؤوسهم.
فلمّا توافت الرعال كلها أهالت الطير ما في مناقيرها على من تحتها ، مكتوب في كلّ حجر اسم صاحبه ، ثم إنها انصاعت من حيث جاءت ، فلمّا أصبحا انحطّا من ذروة الجبل ، فمشيا رتوة فلم يؤنسا أحدا ثم دنيا رتوة فلم يسمعا حسّا فقالا : بات القوم سامدين فأصبحوا نياما ، فلمّا دنيا من عسكر القوم فإذا هم خامدون.
وكان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها حتى تقع في دماغه وتخرق الفيل والدّابة ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه ، فعمد عبد المطّلب فأخذ فأسا من فؤوسهم فحفر حتى أعمق في الأرض فملأه من الذهب الأحمر والجوهر الجيّد ، وحفر لصاحبه فملأه ثم قال لأبي مسعود : هات خاتمك فاختر ، إن شئت أخذت حفرتي وإن شئت أخذت حفرتك وإن شئت فهما لك معا.
فقال ابن مسعود : اخترتني على نفسك ، فقال عبد المطّلب : إني لم آل أن أجعل أجود المتاع في حفرتي فهو لك ، وجلس كل واحد منهم على حفرته ونادى عبد المطّلب في الناس فتراجعوا وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به ذرعا ، وساد عبد المطّلب بذلك قريش ، وأعطته المقادة فلم يزل عبد المطّلب وأبو مسعود في أهلهما في غنى من ذلك المال ، ودفع الله عن كعبته وقبلته ، فسلّط جنودا لا قبل لهم بها.
وقال الواقدي بأسانيده : وجّه أبرهة أرياط أبا ضخمة في أربعة آلاف إلى اليمن فغلب عليها ؛ فأكرم الملوك واستذلّ الفقراء ، فقام رجل من الحبشة يقال له : أبرهة الأشرم أبو يكسوم فدعا إلى طاعته فأجابوه ، فقتل أرياط وغلب على اليمن ، فرأى الناس يتجهّزون للحج فقال : أين يذهب الناس؟ قال : يحجّون بيت الله بمكّة.
قال مما هو؟ قال : من حجارة. قال فما كسوته؟ قال مما يأتي من هنا وهناك.
قال : والمسيح لأبنينّ لكم خيرا منه فبنى لهم بيتا عمله بالرخام الأبيض والأحمر والأصفر والأسود ، وحلّاه بالذهب والفضة ، وحفّه بالجواهر وجعل فيها ياقوتة حمراء عظيمة ، وجعل له حجّابا ، وكان يوقد بالمندلي ويلطخ جدره بالمسك فيسودها حتى تغيب الجواهر ، وأمر الناس بحجّه ، فحجّه كثير من قبائل العرب سنين ، ومكث فيه رجال يتعبّدون ويتألّهون ونسكوا له.