(رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) اختلفوا في وجه انتصاب الرحلة فقيل : نصبت على المصدر أي ارتحالهم رحلة ، وإن شئت نصبته بوقوع إيلافهم عليه ، وإن شئت على الظرف بمعنى : على رحلة ، وإن شئت جعلتهما في محل الرفع على معنى هما رحلتا الشتاء والصيف ، والأول أعجب وأحبّ إليّ لأنّها مكتوبة في المصاحف بغير ياء.
وأمّا التفسير : فروى عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كانوا يشتون بمكّة ويصيفون بالطائف ، فأمرهم الله سبحانه أن يشتوا بالحرم ويعبدوا ربّ البيت.
وقال أبو صالح : كانت الشام فيها أرض باردة وفيها أرض حارة ، وكانوا يرتحلون في الشتاء إلى الحارة ، وفي الصيف إلى الباردة وكانت لهم رحلتان كلّ عام للتجارة : أحدهما في الشتاء إلى اليمن ؛ لأنها أدفأ ، والأخرى في الصيف إلى الشام ، وكان الحرم واديا جدبا لا زرع فيه ولا ضرع ، ولا ماء ولا شجر ، وإنّما كانت قريش تعيش بها بتجارتهم ورحلتهم ، وكانوا لا يتعرض لهم بسوء.
وكانوا يقولون : قريش سكان حرم الله وولاة بيته ، فلولا الرحلتان لم يكن لأحد بمكّة مقام ، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرّف ، فشقّ عليهم الاختلاف إلى اليمن والشام ، وأخصبت تبالة وجرش والجند من بلاد اليمن ، فحملوا الطعام إلى مكّة ، أهل الساحل في البحر على السفن ، وأهل البر على الإبل والحمر ، فألقى أهل الساحل بجدّة وأهل البرّ بالمحصّب ، وأخصبت الشام فحملوا الطعام إلى مكّة ، فحمل أهل الشام إلى الأبطح ، وحمل أهل اليمن إلى الجدّة ، فامتاروا من قريب وكفاهم الله مؤونة الرحلتين وأمرهم بعبادة ربّ البيت.
أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد قال : أخبرنا أبو الوليد حسان بن محمد قال : حدّثنا القاسم بن زكريّا المطرّز قال : حدّثنا محمد بن سليمان قال : حدّثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : مرّ رسول الله عليهالسلام ومعه أبو بكر بملئهم ينشدون :
يا ذا الذي طلب السماحة والندى |
|
هلّا مررت بآل عبد الدار (١) |
هلّا مررت بهم تريد قراهم |
|
منعوك من جهد ومن إقتار |
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأبي بكر : «أهكذا قال الشاعر يا أبا بكر؟» [٢٦٥] قال : لا ، والذي بعثك بالحق ، بل قال :
يا ذا الذي طلب السماحة والندى |
|
هلّا مررت بآل عبد مناف |
لو أن مررت بهم تريد قراهم |
|
منعوك من جهد ومن إيجاف |
الرائشين وليس يوجد رائش |
|
والقائلين هلمّ للأضياف |
__________________
(١) تفسير مجمع البيان : ١٠ / ٤٥٢.