المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أن العذاب واقع بالكافرين لا محالة ، وأن الفريقين المصدقين والمكذبين مجزيون بأعمالهم ، وأن الرسول على الحق المبين الذي من كذبه باء بغضب من الله ، ومن صدّقه استحق رضوانه ومغفرة من لدنه ـ أمر رسوله هنا بالثبات على التذكر والموعظة ، وعدم المبالاة بما يكيد به أولئك الكائدون ، فإنه هو الغالب حجة وسيفا فى هذه الدار ، ومنزلة ورفعة فى دار القرار ؛ ثم ذكر تناقض أقوالهم لينبه إلى فساد آرائهم ، وإلى أنهم ما أعرضوا عن الحق إلا اتباعا للهوى لا اتباعا للدليل والبرهان ، وفى ذلك تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلّم كما لا يخفى ، إذ ما أبعد حال من كان أرجحهم عقلا ، وأبينهم قولا ، منذ ترعرع إلى أن بلغ الأشد ، من الجنون والكهانة ، إلى ما فى هذا من التناقض والاضطراب ، فإن الكهان كانوا من الكملة وكان قولهم مقنعا ، فأين هذا من الجنون ، ثم ترقّوا فى نسبته إلى الكذاب ، فقالوا إنه شاعر ، وأعذب الشعر أكذبه ، ثم قالوا فلنصبر عليه ، ولنتربص به صروف الدهر وأحداثه ، فسيكون حاله حال زهير والنابغة وأضرابهم ممن انقرضوا وصاروا كأمس الدابر ، ثم أمره بتهديدهم بمثل صنيعهم بقوله : «قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ» ثم زاد فى تسفيه أحلامهم بأن مصدر هذا التكذيب إما كتاب أنزل عليهم بذلك وإما أن عقولهم تأمرهم بما يقولون ، لا بل الحق أنهم قوم طاغون يفترون ويقولون ما لا دليل عليه لا من كتاب ولا مقتضى له من عقل ، ثم زادوا فى الإنكار ونسبوه إلى التقول والافتراء ، فإن صح ما يقولون فليأتوا بمثل أقصر سورة من مثل هذا المفترى إن كانوا صادقين ، لا بل هم قوم جاحدون لا يؤمنون فليقولوا ما تسوّله لهم أنفسهم فإن الله قد أعمى بصائرهم ، فهم لا أحلام لهم تميز الحق من الباطل ، والغث من السمين فامض لشأنك ، ولا تأبه لمقالهم فالله معك ، ولن يترك شيئا من أعمالك.