كان يعقوب أمرهم بالتحسس من يوسف وأخيه والمتحسس يجب عليه أن يتوسل إلى مطلوبه بجميع الطرق كما قيل : الغريق يتعلق بكل شيء. فبدأوا بالعجز والاعتراف بضيق اليد وإظهار الفاقة فرقق الله تعالى قلبه وارفضت عيناه فعند ذلك قال : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ) وقيل : أدوا إليه كتاب يعقوب : من يعقوب إسرائيل الله بن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد ، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء. أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه الله تعالى وجعلت النار عليه بردا وسلاما ، وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله ، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي من بكائي عليه ، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا إنه سرق وإنك حبسته لذلك ، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام. فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك وعيل صبره فقال لهم ذلك. وروي أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب : «اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا». وقوله : (هَلْ عَلِمْتُمْ) استفهام يفيد تعظيم الواقعة ومعناه ما أعظم الأمر الذي ارتكبتم من يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه كما يقال للمذنب : هل تدري من عصيت. وفيه تصديق لقوله سبحانه : (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا) [يوسف : ١٥] وأما فعلهم بأخيه فتعريضهم إياه للغم بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه وإيذاؤهم له بالاحتقار والامتهان. وقوله : (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) جار مجرى الاعتذار عنهم كأنه قال : إنما أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال ما كنتم في أوان الصبا وزمان الجهالة. والغرة إزالة للخجالة عنهم فإن مطية الجهل الشباب وتنصحا لهم في الدين أي هل علمتم قبحه فتبتم لأن العلم بالقبح يدعو إلى التوبة غالبا فآثر كما هو عادة الأنبياء حق الله على نفسه في المقام الذي يتشفى المغيظ وينفث المصدور ويدرك ثأره الموتور. وقيل : إنما نفى العلم عنهم لأنهم لم يعملوا بعلمهم. ولما كلمهم بذلك (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) عرفوه بالخطاب الذي لا يصدر إلا عن حنيف مسلم عن سنخ إبراهيم ، أو تبسم عليهالسلام فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم ، أو رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء كان ليعقوب وسارة مثلها (قالَ أَنَا يُوسُفُ) صرح بالاسم تعظيما لما جرى عليه من ظلم إخوته كأنه قال : أنا الذي ظلمتموني على أشنع الوجوه والله أوصلني إلى أعظم المناصب ، أنا ذلك الأخ الذي قصدتم قتله ثم صرت كما ترون ولهذا قال : (وَهذا أَخِي) مع أنهم كانوا يعرفونه لأن مقصوده أن يقول وهذا أيضا كان مظلوما كما كنت صار منعما عليه من الله وذلك قوله : (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أي بكل خير دنيوي