إلا ذلك وذكر لذلك مثالا. وخص موسى بالذكر لأن أمته أكثر الأمم سوى أمة محمد كما جاء في الحديث ولكثرة معجزاته الباهرة. ومعنى (أَنْ أَخْرِجْ) أي أخرج لأن الإرسال فيه معنى القول ، ويجوز أن تكون أن ناصبة والتقدير بأن أخرج. ومعنى التذكير بأيام الله الإنذار بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم. ويقال : أيام العرب لحروبها وملاحمها. وعن ابن عباس : أيام الله نعماؤه من تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وبلاؤه إهلاك القرون ، أو الأيام التي كانوا فيها تحت تسخير فرعون ، أو المراد عظهم بالترغيب والترهيب (إِنَّ فِي ذلِكَ) التذكير والتنبيه دلائل (لِكُلِّ صَبَّارٍ) على الضراء (شَكُورٍ) على السراء. وذلك أن فائدة الآيات إنما تعود عليهم حيث ينتفعون بها.
ولما أمر الله موسى بالتذكير حكى عنه أنه ذكرهم ولم يقل هاهنا «يا قوم» كما ذكر في المائدة اقتصارا على ما ذكره هناك. وقوله : (عَلَيْكُمْ) إن كان صلة للنعمة بمعنى الإنعام فقوله : (إِذْ أَنْجاكُمْ) ظرف للإنعام أيضا ، وإن كان مستقرا بمعنى اذكروا نعمة الله مستقرة عليكم جاز أن ينتصب (إِذْ أَنْجاكُمْ) بـ (عَلَيْكُمْ) وفي الوجهين جاز أن يكون «إذ» بدلا من النعمة أي اذكروا وقت إنجائكم وهو بدل الاشتمال ، وباقي الآية قد مر في أول البقرة. ومن جملة النعم قوله : (وَإِذْ تَأَذَّنَ) أي واذكروا حين آذن (رَبُّكُمْ) إيذانا بليغا ينتفي عنده الشكوك وتنزاح معه الشبهات. وقد تقدم في أواخر «الأعراف» أن فيه معنى القسم ولذلك دخلت اللام الموطئة في الشرط والنون المؤكدة في الجزاء ، وقد سلف منا في هذا الكتاب أن الشكر بالحقيقة عبارة عن صرف العبد جميع أقسام ما أنعم الله تعالى به عليه فيما أعطاه لأجله. ولا شك أن المكلف إذا سلك هذا الطريق كان دائما في مطالعة أقسام نعم الله وفي ملاحظة دقائق لطفه وصنعه وفي إعمال الجوارح في الأعمال الصالحة الكاسبة لأنوار الملكات الحميدة ، وشغل النفس بمطالعة النعم يوجب مزيد محبة المنعم ، وقد يترقى العبد من هذه الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلا له عن رؤية النعم ، ويصدر منه الأعمال الصالحة بطريق الاعتياد حتى يصير التطبع طباعا والتكلف خلقا ، وهذا معنى اقتضاء الشكر مزيد الإنعام وقد يفيض عليه بحكم وعد الله الذي هو الحق والصدق سجال مواهبه الدينية والدنيوية لأنه مهما صار مطيعا منقادا لواجب الوجود سبحانه تجلى فيه نور الوجود ، فلا غرو ـ أي لا عجب ـ أن ينقاد لذلك النور كثير من الممكنات وينفتح عليه باب التصرف في الخلق بالحق للحق ، وإن كان حال المكلف بضد ما قلنا ظهر عليه أضداد تلك الآثار لا محالة وذلك قوله : (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) يعني كفران النعم (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) ثم بين أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحبه أو عليه والله تعالى غني عن