ذلك كله فقال : (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ) الآية. وذلك أن واجب الوجود في ذاته واجب الوجود في جميع صفاته ولن يكون كذلك إلا إذا كان غنيا عن الحاجات متصفا بكل الكمالات أهلا للحمد وإن لم يكن حامدا.
قوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) يحتمل أن يكون خطابا من موسى لقومه والغرض تخويفهم بمثل هلاك من تقدم من القرون فيكون داخلا تحت التذكير بأيام الله ، واحتمل أن يكون مخاطبة من الله على لسان موسى لقومه يذكرهم أمر القرون الأولى قاله أبو مسلم. والأكثرون على أنه ابتداء مخاطبة لقوم الرسول صلىاللهعليهوسلم تحذيرا لهم عن مخالفته. وقوله : (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) إن كان جملة من مبتدأو خبره فالمجموع اعتراض وإن كان قوله : (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) معطوفا على قوم نوح فقوله : (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) وحده اعتراض. ثم إن عدم العلم إما أن يكون راجعا إلى صفاتهم بأن تكون أحوالهم وأخلاقهم ومدد أعمارهم غير معلومة ، وإما أن يكون عائدا إلى ذواتهم بأن يكون فيما بين القرون أقوام ما بلغنا أخبارهم كما روي عن ابن عباس : بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون. وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى الله علمها عن العباد. ونظير الآية قوله : (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) [الفرقان : ٣٨] (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر : ٧٨] قال القاضي : وعلى هذا الوجه لا يمكن القطع بمقدار السنين من لدن آدم عليهالسلام إلى هذا الوقت لأنه لو أمكن ذلك لم يبعد تحصيل العلم بالأنساب الموصولة. ثم إنه تعالى حكى عن هؤلاء الأقوام أنهم لما (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أتوا بأمور أحدها (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) وفيه قولان : أحدهما أن المراد باليد والفم الجارحتان ، وعلى هذا فيه احتمالان : الأول أن الكفار ردّوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل كقوله : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [آل عمران : ١١٩]. قاله ابن عباس وابن مسعود وهو الأظهر ، أو وضعوا الأيدي على الأفواه ضحكا واستهزاء كمن غلبه الضحك ، أو وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن قفوا عن هذا الكلام واسكتوا عن ذكر هذا الحديث قاله الكلبي ، أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما تكلموا به من قولهم (إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطا لهم من التصديق ، وهذا قول قويّ لعطف قوله : (وَقالُوا) على قوله : (فَرَدُّوا) الاحتمال الثاني : أن تكون الضمائر راجعة إلى الرسل والمراد أن الرسل لما أيسوا منهم سكتوا ووضعوا أيدي أنفسهم على أفواه أنفسهم أرادوا أنهم لا يعودون إلى ذلك الكلام البتة ، أو يكون الضميران الأخيران راجعين