تكن معادلة مكافية بحسب الكمية والكيفية لاستولى الغالب على المغلوب وتنقلب الطبائع كلها إلى طبيعة الجرم الغالب ، ولو كان بعد الشمس من الأرض أقل مما هو الآن لاحتراق كل ما في هذا العالم ، وإن كان أكثر استولى البرد والجمود ، وكذا القول في مقادير حركات الكواكب ومراتب سرعتها وإبطائها فإن كلا منها مقدر على ما يليق بنظام العالم وقوامه وقيامه. فهذه إشارة مختصرة إلى تحقيق العدل.
وأما الإحسان فهو المبالغة في أداء الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية ومن هنا قال : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» فكأن المبالغ المخلص في أداء الطاعات يوصل الفعل الحسن إلى نفسه وبالحقيقة يدخل في الإحسان أنواع التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ، وأشرف أنواع الإشفاق صلة الرحم بالمال فلا جرم أفرد بالذكر كما مر. ثم إنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعا : الشهوية البهيمية والغضبية السبعية والوهمية الشيطانية والعقلية الملكية. وهذه الأخيرة لا تحتاج إلى التهذيب لأنها من نتائج الأرواح القدسية ، وأما الثلاث الأول فتحتاج إلى التأديب والتهذيب بمقتضى الشريعة وقانون العقل والطريقة أو النهي عن الفحشاء عبارة عن المنع من تحصيل اللذات الشهوية الخارجة عن إذن الشريعة ، والنهي عن المنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية من إيذاء الناس وإيصال الشر إليهم من غير ما استحقاق ، والنهي عن البغي إشارة إلى المنع من إفراط القوة الوهمية كالاستعلاء على الناس والترفع وحب الرياسة والتقدم ممن ليس أهلا لذلك ، وأخس هذه المراتب عند العقلاء القوة الشهوانية ، وأوسطها الغضبية ، وأعلاها الوهمية فلهذا بدأ سبحانه بالفحشاء ثم بالمنكر ثم بالبغي ، ولأن أصول الأخلاق والتكاليف كلها مذكورة في الآية لا جرم ختمها بقوله : (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) لأنها كافية في باب العظة والتذكر والارتقاء من حضيض عالم البشرية إلى ذروة عالم الأرواح المقدسة. قال الكعبي : في الآية دلالة على أنه تعالى لا يخلق الجور والفحشاء وإلا فكيف ينهاهم عما يخلقها فيهم؟ وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارا. واعلم أنه لا يلزم من إرادة الله تذكر العبد ـ والتذكر من فعل الله بالاتفاق لا من فعل العبد ـ أن يطلب الله منه التذكر فإن طلب ما ليس في وسعه محال. فمعنى (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) إرادة أن تكونوا على حالة التذكر لا إرادة أن تحصلوا التذكر.
ثم خص من جملة المأمورات الوفاء بالعهد فقال : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) خصصه جار الله بالبيعة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم لقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠]. وقال الأصم : المراد منه الجهاد وما فرض الله في الأموال من حق الشرائع. وقيل : هو