صدر عنه أمر بخلاف الشرع والعقل أصلا. (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ) قال في الكشاف : معناه الذي آمر به فحذف الجار كما في أمرتك الخير ، أو ما مصدرية والضمير ليوسف أي أمري إياه أي موجب أمري ومقتضاه (وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) هي نون التأكيد المخففة ولهذا تكتب بالألف لأن الوقف عليها بالألف. والصغار الذل والهوان ، ومعلوم أن التوعد بالصغار له تأثير عظيم في حق من كان رفيع النفس جليل القدر مثل يوسف.
ثم إنه اجتمع على يوسف في هذه الحالة أنواع من المحن والفتن منها : أن زليخا كانت في غاية الحسن ، ومنها أنها كانت ذات مال وثروة وقد عزمت أن تبذل الكل ليوسف على تقدير أن يساعدها ، ومنها أن النسوة اجتمعن عليه مرغبات ومخوفات ، ومنها أنها كانت ذات قدرة ومكنة وكان خائفا من شرها ومن إقدامها على قتله ، ولا ريب أن نطاق عصمة البشرية يضيق عن بعض هذه الأسباب فضلا عن كلها وعن أزيد منها ولهذا لجأ يوسف عليهالسلام إلى الله تعالى قائلا : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) لأن السجن وإن كان مشقة فهي زائلة والذي يدعونه إليه وإن كان لذة إلا أنها عاجلة مستعقبة لخزي الدنيا وعذاب الآخرة (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) بترجيح داعية الخير وعزوف النفس أو بمزيد الألطاف والعصمة (أَصْبُ إِلَيْهِنَ) والصبوة الميل إلى الهوى ومنها الصبا لأن النفوس تصبو إلى روحها. (وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) الذين لا يعملون بما يعلمون ولا يكون في علمهم فائدة ، أو من السفهاء لأن الحكيم لا يفعل القبيح. ولما كان في قوله : (وَإِلَّا تَصْرِفْ) معنى الدعاء وطلب الصرف قال سبحانه : (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) ثم إن المرأة أخذت في الاحتيال وقالت لزوجها إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس ويقول لهم في المجالس إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري ، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر ، وإما أن تحبسه كما حبستني فعند ذلك وقع في قلب العزيز أن الأصلح حبسه حتى ينسى الناس هذا الحديث فذلك قوله تعالى : (ثُمَّ بَدا) أي ظهر (لَهُمْ) للعزيز ومن يليه أو له وحده والجمع على عادتهم في تعظيم الأشراف (مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) الدالة على براءة يوسف من شهادة الصبي واعتراف المرأة وشهادة النسوة له بالسيرة الملكية والعفة. وفاعل بدا مضمر أي ظهر لهم رأي أو سجنه وإنما حذف لدلالة ما يفسره عليه وهو (لَيَسْجُنُنَّهُ) والقسم محذوف (حَتَّى حِينٍ) إلى زمان ممتد. عن ابن عباس : إلى زمان انقطاع القالة وما شاع في المدينة. وعن الحسن : خمس سنين. وعن غيره سبع سنين. وعن مقاتل : أنه حبس اثنتي عشرة سنة.
التأويل : لما أخرجوا يوسف القلب من جب الطبيعة ذهبوا به إلى مصر الشريعة