شككتم فيه من شيء فلا تشكوا في أن تبعا كان مسلما» (١) الثالث قوله (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا) نبه بذلك على أنهم عرفوه وعرفوا صحة نسبته وأمانته فكيف كذبوه بعد أن اتفقت كلمتهم على أنه أمين؟ الرابع نسبتهم إياه إلى الجنون وكانوا يعلمون أنه أرجحهم عقلا ولكنه جاء بما يخالف هواهم فتشككوا في أمره أو شككوا العوام إبقاء على مناصبهم ورياستهم. ثم أضرب عن أقوالهم منبها على مصدوقية أمر النبي فقال (بَلْ جاءَهُمْ) متلبسا (بِالْحَقِ) أو الباء للتعدية والحق الدين القويم والصراط المستقيم (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) وأقلهم كانوا لا يكرهونه وإن لم يظهروا الإيمان به خوفا من قالة الأعداء كما يحكى عن أبي طالب ، ولهذا جاء الخلاف في صحة إسلامه. ثم بين أن الإلهية تقتضي الاستقلال في الأوامر والنواهي ، وأن الحق والصواب ينحصر فيما دبره إله العالمين وقدّره فقال (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) نظيره ما مر في قوله (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] وقيل : الحق الإسلام ، والمراد لو انقلب الإسلام شركا كما تقتضيه أهواؤهم لجاء الله بالقيامة ، ولأهلك العالم ولم يؤخر. وعن قتادة : الحق هو الله ، والمعنى لو كان الله آمرا بالشرك والمعاصي على وفق آرائهم لما كان إلها ولكان شيطانا فلا يقدر على إمساك السموات والأرض ، وحينئذ يختل نظام العالم. ثم ذكر أن نزول القرآن عليهم من جملة الحق فقال (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) إن كانت الباء للتعدية فظاهر ، وإن كانت للمصاحبة فعلى حذف مضاف أي أتاهم رسولنا متلبسا بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أوصيتهم وفخرهم ، أو الإضافة بدل اللام العهدي أي بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) [الصافات : ١٦٩] ثم بيّن أن دعوته ليست مشوبة بالطمع الموجب للنفرة فقال (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) أي جعلا وكذا الخراج وقد مر في آخر الكهف. وقيل : الخرج أقل ولذا قرأ الأكثرون (خَرْجاً فَخَراجُ) يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخالق خير.
وحين أثبت لرسوله مواجب قبول قوله ونفى عنه أضدادها صرح بمضمون أمره ومكنون سره فقال (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو دين الإسلام لا تدعوهم إلى غيره من الطرق المنحرفة عن جادة الصواب ، وأشار إلى هذه الطرق بقوله (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) هم المذكورون فيما تقدم أو كل من لا يؤمن بالاخرة (عَنِ الصِّراطِ) المستقيم المذكور (لَناكِبُونَ) والتركيب يدور على العدول عن القصد ومنه المنكب لمجمع
__________________
(١) روى أحمد في مسنده (٥ / ٣٤٠) «لا تسبوا تبعا فإنه قد كان أسلم» ولم يأت على ذكر التبعية.