أن أمر الاستئذان مضيق لا يجوز ارتكابه في كل شأن. وفي قوله (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) دلالة على أنه تعالى فوّض بعض أمر الدين إلى اجتهاد الرسول ورأيه. وزعم قتادة أنها منسوخة بقوله (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣] وفي قوله (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) وجهان : أحدهما أن هذا الاستغفار لأجل أنهم تركوا الأولى والأفضل وهو أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه ، والآخر أنه جبرا لهم على تمسكهم بإذن الله تعالى في الاستئذان.
ثم حثهم على طاعة رسوله بقوله (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ) أي لا تقيسوا دعاءه إياكم لخطب جليل على دعاء بعضكم بعضا ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي ، وذلك أن أمره فرض لازم وأمر غيره ليس بفرض ، وإنما هو أدب مستحن رعايته مع الأئمة والمتقدمين. هذا ما عليه الأكثرون منهم المبرد والقفال ، وعن سعيد بن جبير : لا تنادوه باسمه ولا تقولوا «يا محمد» ولكن «يا نبي الله ويا رسول الله» مع التوقير والتعظيم والصوت المنخفض. وقيل : أراد احذروا دعاء الرسول ربه عليكم إذا أسخطتموه فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره. والتسلل الانسلال والذهاب على سبيل التدرج ، واللواذ الملاوذة وهو أن يكون هذا بذاك وذاك بهذا. وانتصابه على الحال والحاصل أنهم يتسللون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة وهو استتار بعضهم ببعض. وقيل : كان يلوذ من لم يؤذن له بالذي أذن له فينطلق معه. قال مقاتل : هذا في الخطبة. وقال مجاهد : في صف القتال. وقال ابن قتيبة : نزلت في حفر الخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن. ومعنى (قَدْ يَعْلَمُ) يكثر العلم والمبالغة فيه كما مر في «البقرة» في قوله (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) [البقرة : ١٤٤] يقال : خالفته عن القتال أي جبنت عنه وأقدم هو وخالفته إلى القتال أي أقدمت ، وجبن هو الفتنة المحنة في الدنيا كالقتل أو الزلازل ، وسائر الأهوال والعذاب الأليم هو عذاب النار. وعن جعفر بن محمد عليهالسلام : الفتنة أن يسلط عليهم سلطان جائر. وقال الأصوليون : في الآية دلالة على أن ظاهر الأمر للوجوب لأن تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر فإن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه والموافقة ضد المخالفة ، فإذا أخل بمقتضاه كان مخالفا والمخالف مستحق للعقاب بالآية ، ولا نعني بالوجوب إلا هذا. واعترض عليه بأن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه على الوجه الذي يقتضيه الأمر ، فإن الأمر لو اقتضاه على سبيل الندب وأنت تأتي على سبيل الوجوب كان ذلك مخالفة الأمر. ومنع من أن المندوب مأمور به فإن هذا أول المسألة ، والظاهر أن الضمير في أمره للرسول ولو كان لله لم يضر لأنه لا فرق بين أمر الله وأمر رسوله ، وأمر الرسول متناول عند بعضهم للقول والفعل والطريقة كما يقال «أمر فلان مستقيم» وعلى هذا فكل ما فعله الرسول فإنه يكون