يتلقن من العجمي كلاما عربيا أعجز بفصاحته دهماءهم ، ولو استعان محمد في ذلك بغيره لأمكنهم أيضا أن يستعينوا بغيرهم. قال أبو مسلم : الظلم تكذيبهم الرسول والزور كذبهم عليه.
الشبهة الثانية قولهم أنه (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أحاديث سطرها المتقدمون كأخبار الأعاجم (اكْتَتَبَها) لنفسه كقولك «استكب الماء» أي سكبه لنفسه وأخذه وقد يظن أن في الكلام قلبا لأنه يقال «أمليت عليه فهو يكتتبها» وأجيب بأن المعنى أراد اكتتابها فهي تقرأ عليه أو كتبت له وهو أمي فهي تملى أي تلقى عليه من كتابه يتحفظها ، لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب. قال الضحاك : ما يملى عليه بكرة يقرأ عليكم عشية ، وما يملى عليه عشية يقرأ عليكم بكرة ، وقال جار الله (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي دائما أو في الخفية قبل أن ينتشر الناس وحين يأوون إلى مساكنهم. فأجاب عن هذه الشبهة بقوله (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) الآية. والمعنى أن العالم بكل سر هو الذي يقدر على الإتيان بمثل هذا الكتاب لفصاحة مبانيه وبلاغة معانيه وبراءته من التناقض والاختلاف واشتماله على الغيوب وعلى مصالح العباد في المعاش والمعاد. قال أبو مسلم : أراد أنه يعلم كل سر خفي ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد والنفاق فهو يجازيكم عليه ، ولأجل هذا الوعيد ختم الآية بذكر المغفرة والرحمة فإنه لا يوصف بهما إلا القادر على العقوبة. وقيل : هو تنبيه على أنهم استحقوا بمكابرتهم العذاب العاجل ولكنه صرفه عنهم برحمته وغفرانه.
الشبهة الثالثة قولهم على سبيل الاستهانة وتصغير الشأن (ما لِهذَا) الزاعم أنه رسول أي ما باله (يَأْكُلُ الطَّعامَ) كما نأكل ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردد. زعموا أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش ، ثم نزلوا عن هذا المقام فطلبوا أن يكون إنسانا معه ملك يعضده ويساعده في باب الإنذار ، ثم نزلوا فاقترحوا أن يكون مستظهرا بكنز يلقى إليه من السماء حتى لا يحتاج إلى تحصيل المعاش ، ثم نزلوا فقالوا : لا أقل من أن يكون كواحد من الدهاقين له بستان ينتفع هو أو ننتفع نحن بذلك على اختلاف القراءتين. وانتصب (فَيَكُونَ) لأنه جواب «لو لا» بمعنى «هلا» وحكمه حكم الاستفهام ومحل (أُنْزِلَ) الرفع كما يقول : لو لا ينزل ولهذا عطف عليه يلقى ويكون مرفوعين (وَقالَ الظَّالِمُونَ) من وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالظلم فيما قالوا ، وهم كفار قريش النضر بن الحرث وأمثاله. والمسحور المغلوب على عقله ، والأمثال الأقوال النادرة ، والاقتراحات الغريبة المذكورة فبقوا متحيرين لا يجدون قولا يستقرون عليه ، أو فضلوا عن الحق ولا يجدون طريقا إليه. وقد مر مثل هذه الآية في أواسط سورة بني إسرائيل.