قلال هجر وكانت القلة تسع قربتين وشيئا. وإذا كانت هذه الرواية معتبرة فقط لم يكن في متن الحديث اضطراب ، وحمل الخبث على الشرعي أولى لأن المسألة شرعية وتفسير عدم حمل الخبث بالتأثر تعسف لأنه صح في بعض الروايات «إذا كان الماء قلتين لم ينجس» (١) ولأنه لا يبقى لذكر القلتين حينئذ فائدة لأن ما دون القلتين أيضا بتلك المثابة ، وزيف بأنه بعد التصحيح يوجب تخصيص عموم الكتاب والسنة الظاهرة البعيدة عن الاحتمال بمثل هذا الخبر المجمل. حجة من حكم بنجاسة الماء الذي خالطه نجاسة كيف كانت قوله تعالى : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [الأعراف : ١٥٧] وقوله (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) [النحل : ١١٥] وقال في الخمر (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [المائدة : ٩٠] حرم هذه الأشياء مطلقا ولم يفرق بين حال انفرادها وحال اختلاطها بالماء ، فوجب تحريم استعمال كل ماء تيقنا فيه جزءا من النجاسة. وأيضا الدلائل التي ذكرتموها مبيحة ودلائلنا حاظرة والحاظر غالب على المبيح بدليل أن الجارية المشتركة لا يحل لواحد منهما وطؤها وأيضا قال صلىاللهعليهوسلم «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من جنابة» (٢) أطلق من غير فرق بين القليل والكثير. أجاب مالك بأنه لا نزاع في تحريم استعمال النجاسات ، لكن الكلام في أنه متى ما لم يتغير فليس للنجاسة أثر لأنها انقلبت عن صفتها فكأنها معدومة والنهي عن البول في الماء لتنفر الطبع أو للتنزيه لا للتحريم.
واعلم أنه سبحانه بين في سورة الأنفال أن من غاية إنزال الماء من السماء تطهير المكلفين به حين قال : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) [الأنفال : ١١] ففي وصفه هاهنا بكونه طهورا إشارة إلى ذلك. ثم رتب على الإنزال غايتين أخريين. أولاهما تتعلق بالنبات ، والثانية بالحيوان الأعجم فالناطق. وفي هذا الترتيب تنبيه على أن الكائنات تبتدئ في الرجوع من الأخس إلى الأشرف ، وفيه أن الغرض من الكل هو نوع الإنسان مع أن حياة الأناسي بحياة أرضهم وأنعامهم. قال (مَيْتاً) مع قوله (بَلْدَةً) بالتأنيث لأن «فيعلا» غير جار على الفعل فكأنه اسم جامد وصف به ، أو بتأويل البلد والمكان. والأناسيّ جمع أنسي أو جمع إنسان على أن أصله أناسين فقلبت النون ياء. و «فعيل» قد يستوي فيه الواحد
__________________
(١) المصدر السابق.
(٢) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب ٦٨. مسلم في كتاب الطهارة حديث ٩٥ ، ٩٦. الترمذي في كتاب الطهارة باب ٥١. النسائي في كتاب الطهارة باب ٤٥. الدارمي في كتاب الوضوء باب ٤٥. أحمد في مسنده (٢ / ٢٥٩ ، ٢٦٥).