ختم الكلام بقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإنبات أو في كل واحد من تلك الأزواج (لَآيَةً) على الإبداء والإعادة (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) لأن الله تعالى طبع على قلوبهم (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) فمن عزته قدر على عقوبتهم ومن رحمته بين لهم الدلائل ليتفكروا ويعتبروا ، والرحمة إذا صدرت عن القدرة كانت أعظم موقعا. واعلم أنه سبحانه كرر بعض الآيات في هذه السورة لأجل التأكيد و «التقرير» ؛ فمن ذلك أنه كرر قوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) إلى قوله (الرَّحِيمُ) في ثمانية مواضع : أولها في ذكر النبي صلىاللهعليهوسلم ، والثانية في قصة موسى ، ثم إبراهيم ، ثم نوح ، ثم هود ، ثم صالح ، ثم لوط ، ثم شعيب. ومن ذلك قوله (أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) وهو مذكور في خمسة مواضع : في قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. ومن ذلك أنه كرر (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) في قصة نوح وهود وصالح وليس في ذكر النبي صلىاللهعليهوسلم : (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٠٩] لذكرها في مواضع من غير هذه السورة. وليس في قصة موسى لأنه رباه فرعون حيث قال (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) ولا في قصة إبراهيم لأن أباه في المخاطبين حيث يقول : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) [الأنبياء : ٥٢] وهو قد ربّاه فاستحيا موسى وإبراهيم أن يقولا (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) وإن كانا منزهين من طلب الأجر.
ثم إنه تعالى أعاد في هذه السورة قصص الأنبياء المشهورين مع أممهم اعتبارا لهذه الأمة ، وبدأ بقصة موسى لما فيها من غرائب الأحوال وعجائب الأمور. والنداء المسموع عند الأشعري هو الكلام القديم الذي لا يشبه الحروف والأصوات ، وعند المعتزلة وإليه ميل أبي منصور الماتريدي أنه من جنس الحروف والأصوات وأنه وقع على وجه علم به موسى أنه من قبل الله تعالى وقد عرفه أنه سيظهر عليه المعجزات إذا طولب بذلك. قال جار الله : قوله (أَلا يَتَّقُونَ) كلام مستأنف فيه تعجيب لموسى من حالهم الشنعاء في قلة خوفهم وكثرة ظلمهم ، أو هو حال أدخلت عليه همزة الإنكار. ثم إن موسى خاف أن يكذب عند أداء الرسالة فاستظهر بهارون. وفي قراءة النصب خاف التكذيب المستتبع لضيق الصدر المستلزم لاحتباس اللسان عن الجريان في الكلام ، ولعله أراد بهذه الحبسة عقدة في لسانه قبل إجابة دعوته أو بقية يروى أنها بقيت بعد الإجابة كما مر في «طه». ومعنى (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) أرسل إليه جبريل واجعله نبيا يصدقني في أمري فاختصر الكلام اختصارا. ثم ذكر أن لهم عليه ذنبا فسمى جزاء الذنب ذنبا ، أو المضاف محذوف أي تبعة ذنب وهو قود قتل القبطي كما سيجيء تفصيله في سورة القصص. فيمكن أن يقتل قبل أداء الرسالة فلا يتمكن من