أدل على النصح وأقرب إلى القبول كأنه قال : إني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدوّ. ويحكى عن الشافعي أن رجلا واجهه بشيء فقال : لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب. وقوله (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) استثناء منقطع أي لكن رب العالمين حبيب لي. ثم وصف لهم الرب بأنه (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) أي خلق بدني على كماله الممكن له ثم يهدين في الاستقبال إلى ضروب مصالح الدين والدنيا كامتصاص الدم في البطن والثدي بعد الولادة نظيره ما مر في «طه» (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠]. ثم نبه بقوله (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) أن الذي يتعلق به قوام البدن من الاغتذاء بالطعام والإساغة بالشراب هو من جملة إنعام الله تعالى لأنه خلق هناك قوى جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة وغيرها ، ولولاها لما تم أمر الانتفاع بالغذاء بل نفس الغذاء من جملة نعمه الشاملة ، ثم قال (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) وذلك أن البدن ليس دائما على النهج الطبيعي بحيث تصدر عنه الأفعال الموضوع هو لها سليمة فاسترداد الصحة بعد زوالها ليس إلا بإذن الله وبما خلق لكل داء دواء وإنما لم يقل أمرضني لأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بإسراف الإنسان في المطعم والمشرب. وأيضا الصحة تحتاج إلى سبب قاهر يقسر الأخلاط والقوى على النسبة المطلوبة ، أما المرض فإنه بسبب تنافر الأخلاط وطلب كل منها مركزه الأصلي. وأيضا فيه رعاية الأدب في مقام المدح وتعداد النعم وإنما لم يراع هذه النكتة في قوله (وَالَّذِي يُمِيتُنِي) لأن الإماتة ليست بضر كالمرض. إما بعدم الإحساس وقتئذ ، وإما لأنها مقدمة الوصول إلى عالم الخير والراحة. وإنما زاد لفظة «هو» في الإطعام والشفاء لأنهما قد ينسبان إلى الإنسان فيقال : زيد يطعم وعمرو يداوي. فأكد إعلاما بأن ذلك في الحقيقة من الله ، واما الإماتة والإحياء فلا يدعيهما مدع فأطلق. ثم أشار إلى ما بعد الإحياء من المجازاة بقوله (وَالَّذِي أَطْمَعُ) فحمل الأشاعرة الطمع على مجرد الظن والرجاء بناء على أنه لا يجب لأحد على الله شيء. وحمله المعتزلة على اليقين تارة وعلى هضم النفس والتواضع وتعليم الأمة أخرى ، كما أنه أضاف الخطيئة إلى نفسه لمثل ذلك. وقد تحمل الخطيئة على المعاريض المنسوبة إليه من قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩] وقوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) [الأنبياء : ٦٣] وقوله لسارة «هي أختي» وإنما علق المغفرة بيوم الدين لأن أثرها يتبين يومئذ وهو في الدنيا خفي. قال بعضهم : فائدة زيادة «لي» هي أن يعلم أن المغفرة فائدتها تعود إليه والله سبحانه لا يستفيد بذلك كمالا لم يكن له. والمراد : أطمع أن يغفر لي لمجرد عبوديتي له واحتياجي إليه لا بواسطة شفيع كما قال لجبرائيل : أما إليك فلا.
وحين قدم الثناء شرع في الدعاء تعليما لأمته إذا أرادوا مسألة فقال (رَبِّ هَبْ لِي