وحيهم ، أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس. وإنما لم يقل «وكلهم كاذبون» لأن الكذوب قد يصدق فيصدق عليه أنه صادق في الجملة لأن هذه عبارة الفصحاء لا يحكمون حكما كليا ما لم تدع إليه ضرورة. والحاصل أنهم كانوا يقيسون حال النبي صلىاللهعليهوسلم على حال الكهنة فقيل لهم : إن الأغلب على الكهنة الكذب ولم يظهر من أحوال محمد صلىاللهعليهوسلم إلا الصدق ، فكيف يكون كاهنا؟ ثم بين ما يعرف منه أن النبي ليس بشاعر كما أنه ليس بكاهن فقال (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) قيل : أي الشياطين. والأظهر أنهم الذين يروون أشعارهم وكان شعراء قريش مثل عبد الله بن الزبعري وأمية بن أبي الصلت يهجون النبي صلىاللهعليهوسلم ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أهاجيهم فنزلت. ثم بين غوايتهم بقوله (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) وهو تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول يمدحون إنسانا معينا تارة ويذمونه أخرى غالين في كلا الطرفين مستعملين التخيل في كل ما يرومونه. وذكر من قبائح خصالهم (أَنَّهُمْ يَقُولُونَ) عند الطلب والدعاوي (ما لا يَفْعَلُونَ) ولعمري إنها خصلة شنعاء تدل على الدناءة واللؤم.
قالوا وما فعلوا وأين هم |
|
من معشر فعلوا وما قلوا |
وعن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله :
فبتن بجانبيّ مصرعات |
|
وبت أفض أغلاق الختام |
فقال : وجب عليك الحد. قال : قد درأ الله عني الحد يا أمير المؤمنين وتلا الآية. ثم استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الذين أغلب أحوالهم الذكر والفكر فيما لا بأس به من المواعظ والنصائح ، ومدح الحق وذويه ، ويكون هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم مثل عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن زهير كانوا ينافحون عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وعن كعب بن مالك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال له : اهجهم فو الذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل. وكان يقول لحسان : هاجهم وروح القدس معك. والحاصل أن النظر في الشعر إلى المعنى لا على مجرد النظم والروي. فإن كان المعنى صحيحا مطابقا للحق والصدق فلا بأس بإدخاله في سلك النظم والقافية بل لعل النظم يروجه ويهيج الطبع على قبوله وهو الذي عناه صلىاللهعليهوسلم «إن من الشعر لحكما» (١). وإن كان المعنى فاسدا والغرض غير صحيح فهو
__________________
(١) رواه البخاري في كتاب الأدب باب ٩٠. أبو داود في كتاب الأدب باب ٨٧. الترمذي في كتاب الأدب باب ٦٩. ابن ماجة في كتاب الأدب باب ٤١. الدارمي في كتاب الاستئذان باب ٦٨. أحمد في مسنده (٣ / ٤٥٦).