لأن الاستغراق الكلي بالنسبة إلى أهل الآخرة أبعد فأخر الأبعد. ولما كان المذكور هاهنا من قبيل الدنيا ولهذا أشار إليها بقوله (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا) وقال في الأنعام (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) [الآية : ٣٢] وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها بالكلية ، فلا جرم قدم اللهو. ويحتمل أن يقال : إنه تعالى قدم اللعب على اللهو في موضعين من «الأنعام» وكذلك في القتال ويقال لها «سورة محمد» صلىاللهعليهوسلم وفي «الحديد». وقدم اللهو على اللعب في «الأعراف» و «العنكبوت». فاللعب مقدم في الأكثر لأن اللعب زمانه الصبا ، واللهو زمانه الشباب ، وزمان الصبا مقدم على زمان الشباب.
«تنبيه» ما ذكر في الحديد (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ) كلعب الصبيان (وَلَهْوٌ) كلهو الشبان و (زِينَةٌ) كزينة النسوان (وَتَفاخُرٌ) كتفاخر الإخوان (وَتَكاثُرٌ) [الآية : ٢٠] كتكاثر السلطان وقدم اللهو في الأعراف لأن ذلك في القيامة فذكر على ترتيب ما انقضى وبدأ بما بدأ به الإنسان وانتهى من الجانبين. وأما هذه السورة فأراد فيها ذكر سرعة زمان الآخرة ، فبدأ بذكر ما هو أكثر ليكون إلى المقصود أقرب. ثم إن الحال في سورة الأنعام لما كانت حال إظهار الحسرة لم يحتج المكلف إلى وازع قوي فاقتصر على قوله (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) [الأنعام : ٣٢] ولما كان هاهنا حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى وازع أقوى فقال (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي لا حياة إلا حياة الآخرة وليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة بلا موت فكأنها في ذاتها حياة. ولا يخفى ما في التركيب من أنواع المبالغة من جهة «إن» ومن جهة صيغة الفصل ، ولام التأكيد ، وبناء الفعلان بتحريك العين وهو مصدر «حيي» بياءين لفقد ما عينه ياء ولامه واو. ولو كانا واوين لقيل : حوى مثل قوى وقياسه «حييان» بياءين قلبت الثانية واوا على منوال حيوة في اسم رجل. ولأن المبالغة هاهنا أزيد مما في الأنعام قال هاهنا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) وهنالك (أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنعام : ٣٢] لأن المعلوم أكثر مقدمة من المعقول وقد مر في السورة ثم أشار بقوله (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) إلى أن المانع من التوحيد والإخلاص هو الحياة الدنيا لأنهم إذا انقطع رجاؤهم رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد والإخلاص ، فإذا نجاهم إلى البر عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا وأشركوا لأجلها. ثم بين أن نعمة الأمن يجب أن تقابل بالشكر لا بالكفر فقال (أَوَلَمْ يَرَوْا) الآية. وقد مر مثله في «القصص». ثم ذكر أن الذين سمعوا البيانات المذكورة ولم يؤمنوا فلا أظلم منهم لأن من وضع شيئا في غير موضعه فهو ظالم. فمن وضع شيئا في موضع لا يمكن أن يكون ذلك موضعه يكون أظلم ، وإنهم جعلوا لله شريكا مع عدم إمكان الشريك له ، فلا أظلم منهم. وأيضا من كذب صادقا يجوز عليه الكذب كان ظالما ، فمن كذب صادقا لا يجوز عليه الكذب كيف يكون حاله وإنهم كذبوا النبي والقرآن؟ وفي قوله (لَمَّا