الأبحر السبعة مملوأة مدادا ، فهي تصب فيه مدادها أبدا صبا لا ينقطع. قلت : جعله الأبحر سبعة تقديرا ينافي قوله «أبدا لا ينقطع» وإنما لم يجعل للأقلام مدادا لأن نقصان المداد بالكتابة أظهر من نقصان القلم. وإنما لم يقل «كلم الله» على جمع الكثرة للمبالغة إذ يفهم منه أن كلماته لا تفي بكتبتها البحار فكيف بكلمة؟ وقيل : أراد بكلماته عجائب مصنوعاته الموجودة بكلمة «كن» وقد مر نظير هذه الآية في آخر الكهف. ثم بين أنه لا يصعب على قدرته كثرة الإيجاد والإعدام فإن تعلق قدرته بمقدور واحد كتعلقها بمقدورات غير محصورة لأن اقتداره لا يتوقف على آلة وعدة وإنما ذلك له ذاتي يكفي فيه الإرادة. ثم أكد ذلك بأن سمعه يتعلق في زمان واحد بكل المسموعات ، وكذا بصره بكل المبصرات من غير أن يشغله شيء عن شيء. ثم أعاد طرفا من دلائل قدرته مع تذكير بعض نعمه قائلا (أَلَمْ تَرَ) وقد مر نظيره في «الحج» إلى قوله (الْكَبِيرُ) وقوله هاهنا (يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وقوله في «فاطر» و «الزمر» (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) [الزمر : ٥ ، فاطر : ١٣] يؤل إلى معنى واحد وإن كان الطريق مغايرا ، لأن الأول معناه انتهاؤهما إلى وقت معلوم وهو للشمس آخر السنة وللقمر آخر الشهر. وعن الحسن : هو يوم القيامة لأن جريهما لا ينقطع إلا وقتئذ. والثاني معناه اختصاص الجري بإدراك أجل معلوم كما وصفنا. ووجه اختصاص هذا المقام بإلى وغيره باللام ، أن هذه الآية صدّرت بالتعجيب فناسب التطويل. والمشار إليه بذلك هو ما وصف من عجيب قدرته أو أراد أن الموحى من هذه الآيات بسبب بيان أن الله هو الحق. قال بعضهم (الْعَلِيُ) إشارة إلى كونه تماما وهو أنه حصل له كما ينبغي أن يكون له. و (الْكَبِيرُ) إشارة إلى كونه فوق التمام وهو أنه يحصل لغيره ما يحتاج إليه. ثم أكد الآية السماوية بالآية الأرضية. ومعنى (بِنِعْمَتِهِ) بإحسانه ورحمته أو بالريح الطبية التي هي بأمر الله (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإجراء (لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) على الضراء (شَكُورٍ) في السراء. ووجه المناسبة أن كلتا الحالتين قد يقع لراكب البحر أو صبار على النواحي والتروك شكور في الأفعال والأوامر ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم «الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر». ثم ذكر أن بعض الناس لا يخلص لله إلا عند الشدائد ، وإنما وحد الموج وجمع الظلل وهي كل ما أظلك من جبل أو سحاب ، لأن الموج الواحد يرى له صعود ونزول كالجبال المتلاصقة. وإنما قال هاهنا.
(فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وقد قال فيما قبل (إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت : ٦٥] لأنه ذكر هاهنا الموج وعظمته ولا محالة يبقى لمثله أثر في الخيال فيخفض شيئا من غلو الكفر والظلم وينزجر بعض الانزجار ، ويلزمه أن يكون متوسطا في الإخلاص أيضا لا غاليا فيه ، وقل مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر. والختر أشد الغدر ومنه قولهم «لا تمد لنا شبرا من غدر إلا