آخر لكونهم غير منتهجين سبيل الرشاد وذلك قوله (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) قال أهل التحقيق : المانع إما أن يكون في النفس وهو الغل فلا يتبين لهم آيات الأنفس ، وإما أن يكون خارجا عنها وهو السدّ فلا يتضح لهم دلائل الآفاق. ويمكن أن يقال : السدّ من قدام إشارة إلى عدم العلوم النظرية ، ومن خلف إشارة إلى عدم فطنتهم الغريزية ، أو الأوّل إشارة إلى الغفلة عن أحوال المعاد ، والثاني إشارة إلى الغفلة عن المبدأ. وفيه أن السالك إذا انسدّ عليه الطريق من قدامه ومن خلفه والموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة فإنه يهلك لا محالة. ثم زاد في التأكيد بقوله (فَأَغْشَيْناهُمْ) أي جعلنا بعد ذلك كله على أبصارهم غشاوة (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) شيئا أصلا. ويحتمل أن يكون الإغشاء إشارة إلى أن السدّ قريب منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة فإن القرب القريب مانع من الرؤية فلا يرون السدّ قريب منهم (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) وعلى هذا يكون ذكر السد من خلف تأكيدا على تأكيد ، فإن الذي جعل بين يديه ومن خلفه سدان ملتزقان لا يمكنه التحرك يمنة ويسرة ولا النظر إلى السدّ ولا إلى غيره. ويمكن أن يقال : فائدته تعميم المنع من انتهاج المسالك المستقيمة لأنهم إن قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو إلى جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء ، وهكذا إن فرض رجوع قهقرى فإن المشي من هاتين الجهتين عادة ، ثم صرح بالمقصود معطوفا على المذكورات قائلا (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ) الآية. وقد مر إعرابه وسائر ما يتعلق بتفسيره في أول البقرة. ولا يخفى أن الإنذار وعدمه بالنسبة إلى النبي صلىاللهعليهوسلم غير مستويين وإنما الإنذار سبب لزيادة سيادته وسعادته عاجلا وآجلا.
ثم بين بقوله (إِنَّما تُنْذِرُ) أن عدم فائدة الإنذار إنما هو بالإضافة إلى المطبوع على قلوبهم الذين تقدم شرح حالهم وبيان أمثالهم لا إلى المنتفعين به. والذكر القرآن أو ما فيه من المواعظ والحكم والدلائل ، وفي ذكر الخشية مع تعقيبه باسم الرحمن إشارة إلى أن قهره مقرون بلطفه يعني مع كونه ذا هيبة لا تقطعوا رجاءكم. والغيب ما غاب عنا من أحوال القيامة وغيرها. وقيل : أي بالدليل وإن لم ينته إلى العيان فعند الانتهاء إلى ذلك لم يبق للخشية فائدة. ومعنى الفاء في (فَبَشِّرْهُ) أنك كما أنذرت وخوّفت فبشر بمغفرة واسعة وأجر كريم لا يكتنه كنهه ، فكأن المغفرة بإزاء الإيمان والأجر الكريم للعمل الصالح. أو الأول لاتباع الذكر والثاني للخشية. وحين فرغ من بيان الرسالة شرع في أصل الحشر قائلا (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) على أن البشارة بالمغفرة والأجر لا يتم إلا بعد ثبوت الإعادة وهكذا خشية الرحمن بالغيب تناسب ذكر إحياء الأموات. والظاهر أن قوله (نَحْنُ) ضمير الفصل ويجوز أن يكون مبتدأ والفعل خبره والجملة خبر «إن» ويجوز أن يكون (نَحْنُ) خبر «إن»