وأما التقدير الثاني وهو أن يكون المراد بهذه الأمور الثلاثة موصوفات متغايرة ؛ فالصافات الطير من قوله (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) [النور : ٤١] والزاجرات كل ما زجر عن معاصي الله ، والتاليات كل من تلا كتاب الله. أو الصافات طائفة من الملائكة أو من الأشخاص الإنسانية ، وكل من الزاجرات والتاليات طائفة أخرى. وقيل : الصافات العالم الجسماني المنضود كرة فوق كرة من الأرض إلى الفلك الأعظم ، والزاجرات الأرواح المدبرة للأجسام بالتحريك والتصريف ، والتاليات الأرواح المستغرقة في بحار معرفة الله تعالى والثناء عليه. والفاء على هذه المعاني لترتب الموصوفات في الفضل. ثم إنه سبحانه لم يقتصر في إثبات التوحيد على الحلف ولكنه عقبه بالدليل الباهر فقال (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) فلكل كوكب مشرق ومغرب بل للشمس ولسائر السيارات وللثوابت في كل يوم مشرق آخر بحسب تباعدها عن منطقة المعدل وتقاربها منها. وإنما اقتصر على ذكر المشارق لشرفها ولدلالتها على البغارب كقوله (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١]. ثم بين أنه جعل الكواكب بحيث يشاهدها الناس من السماء الدنيا وهي تأنيث الأدنى لمنفعتين : الأولى تحصيل الزينة ، والثانية الحفظ من الشيطان. والزينة مصدر كالنسبة أو اسم لما يزان به الشيء كالليقة لما تلاق به الدواة. ثم قرأ بالإضافة فلها وجوه : أن يكون مصدرا مضافا إلى الفاعل أي بأن زانتها الكواكب وإلى المفعول أي بأن زان الله تعالى الكواكب وحسنها في أنفسها ، فإن النور والضوء أحسن الصفات وأكملها ، وكذا أشكالها المختلفة كشكل الثريا وبنات النعش والجوزاء وسائر الصور المتوهمة من الخطوط التي تنظم طائفة منها ، وقد ترتقي إلى نيف وأربعين منها صور البروج الاثني عشر. وبالجملة إشراق الجواهر الزواهر وتلألؤها على بسيط أزرق بنظام مخصوص مما يروق الناظر ، ويجوز أن يقع (الْكَواكِبِ) بيانا للزينة وهي اسم لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به فيكون كخاتم فضة. ويجوز أن يراد بالزينة ما زينت به الكواكب كما روي عن ابن عباس أنه فسر الزينة بالضوء. ومن قرأ بتنوين (بِزِينَةٍ) وجر (الْكَواكِبِ) فعلى الإبدال ، ومن قرأ بتنوين (بِزِينَةٍ) ونصب (الْكَواكِبِ) فعلى أنه بدل من محل (بِزِينَةٍ) أو من السماء ، أو على أن المراد بتزيينها الكواكب كما في أحد وجوه الإضافة. قوله (وَحِفْظاً) فيه وجوه أحدها : أنه محمول على المعنى والتقدير : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا من الشياطين. وثانيها أن يقدر مثل الفعل المتقدم للتعليل كأنه قيل : وحفظا من كل شيطان زيناها بالكواكب. وثالثها قال المبرد : إذا ذكرت فعلا ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله بما تقدم. تقول : افعل ذلك وكرامة أي وأكرمك كرامة ، وذلك لما علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال فالتقدير : وحفظناها