ونهاية ، أو أراد أن يظهر للخلق أن حصول الدنيا لا يمنع من خدمة المولى ، وأن ملك سليمان إذا كان عرضة للفناء فالأولى بالعاقل أن يشتغل بالعبودية ولا يلتفت إلى الدنيا وما فيها. وقيل : إنه لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا زائلة منتقلة إلى الغير بإرث ونحوه فطلب ملكا لا يتصور انتقاله إلى الغير وهو ملك الدين والحكمة. وقال أهل البيان : لم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته كما تقول لفلان : ما ليس لأحد من الفضل والمال. وربما كان للناس أمثال ذلك. والأقوى هو الأوّل بدليل قوله عقيبه (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ وَالشَّياطِينَ). ولا ريب أن هذا معجزة وملك عجيب دال على نبوّته ويؤيده ما جاء في الحديث «أردت أن أربطه ـ يعني الشيطان ـ على سارية من سواري المسجد إلا أني تذكرت دعوة أخي سليمان» (١) والضمير في (بِأَمْرِهِ) لسليمان. وقيل : لله. والرخاء الرخوة اللينة ولا ينافي هذا وصفها بالعصوف في الأنبياء فلعلها تختلف باختلاف الأحوال والأوقات ، أو هي طيبة في نفسها ولكنها عاصفة بالإضافة إلى الرياح المعهودة. ومعنى أصاب قصد وأراد من إصابة السهم. وقوله (وَالشَّياطِينَ) معطوف على (الرِّيحَ) وقوله (كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) بدل الكل من الشياطين. كانوا يبنون لأجله الأبنية الرفيعة ويستخرجون اللؤلؤ من البحر وهو أوّل من استخرج الدر من البحر (وَآخَرِينَ) عطف على الشياطين أو على كل داخل في حكم البدل ، وكان يقرن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد. والصفد القيد والعطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه ومنه قول عليّ رضياللهعنه :
من برك فقد أسرك |
|
ومن جفاك فقد أطلقك |
وقيل : حقيقته التفويض على الخير والشر. قال الجبائي : إن الشيطان كان كثيف الجسم في زمن سليمان ويشاهده الناس. ثم إنه لما توفي سليمان أمات الله ذلك الجنس وخلق نوعا آخر لطيف الجسم بحيث لا يرى ولا يقوى على الأعمال الشاقة. قلت : هذا إخبار بالغيب إلا أن تكون رواية صحيحة. ولم لا يجوز أن تكون أجسامهم لطيفة بمعنى عدم اللون ولكنها صلبة بمعنى أنها لا تقبل التمزق والتفرق. (هذا عَطاؤُنا) أي قلنا لسليمان هذا الملك عطاؤنا والإضافة للتعظيم. وقوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) يتعلق بالعطاء يعني أنه جم كثير لا يدخل تحت الضبط والحصر فأعط منه ما شئت أو أمسك مفوّضا إليك زمام
__________________
(١) رواه البخاري في كتاب الصلاة باب ٧٥. مسلم في كتاب المساجد حديث ٣٩. أحمد في مسنده (٢ / ٢٩٨).