مفعول لهما فكانت الهبة رحمة له وتذكيرا لذوي العقول حتى لو ابتلوا بما ابتلي به صبروا كما صبر فيفوزوا كما فاز. وإنما لم يقل هاهنا (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) [الأنبياء : ٨٤] مع أنه أبلغ اكتفاء بما مر في سورة الأنبياء وفي قوله (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) مع قوله في «الأنبياء» (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) [الآية : ٨٤] إشارة إلى أن ذا اللب هو الذي يعبد الله. وتخصص كل من السورتين بما خص لرعاية الفاصلة قوله (وَخُذْ) معطوف على (ارْكُضْ) والضغث الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو سنبلة. قال مجاهد : هو لأيوب خاصة. وعن قتادة : هو عام في هذه الأمة. والصحيح أنه باق في المريض والمعذور لما روي أن النبي صلىاللهعليهوسلم أتى بمخدج وقد زنى بأمة فقال : خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة حلل الله يمين أيوب بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها. ومعنى (وَجَدْناهُ صابِراً) علمنا منه الصبر.
وهاهنا نكتة ذكرها بعض أرباب القلوب وهي أنه لما نزل في حق سليمان (نِعْمَ الْعَبْدُ) تارة وفي حق أيوب أخرى ، اغتم أمة محمد صلىاللهعليهوسلم وقالوا : هذا تشريف عظيم فإن كان سببه اتفاق مملكة مثل مملكة سليمان فنحن لا نقدر عليه ، وإن كان سببه تحمل بلاء مثل بلاء أيوب فنحن لا نطيقه ، فكيف السبيل الى تحصيله؟ فأنزل الله تعالى قوله (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج : ٧٨] والمراد أنك إن لم تكن نعم العبد فأنا نعم المولى ، فإن كان منك الفضول فمني الفضل ، وإن كان منك التقصير فمني النصرة والتوفيق. قلت : وصف أنبياء سائر الأمم بقوله (نِعْمَ الْعَبْدُ) ووصف هذه الأمة بقوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) [آل عمران : ١١٠] فلا تشريف فوق هذا ثم أجمل ذكر طائفة من مشاهير الأنبياء. ومعنى (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) أولي العمل والعلم لأن اليد آلة لأكثر الأعمال ، والبصر آلة لأقوى الإدراكات ، فحسن التعبير عن العمل باليد ، وعن الإدراك بالبصر ، وفيه تعريض بأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ولا يتفكرون أفكار ذوي العقول والعرفان فهم في حكم الزمنى والعميان ، ولو لا قرينة الأبصار لكان يحتمل أن الأيدي جمع اليد النعمة. قوله (أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) الخالصة صفة أو مصدر كالعاقبة ، والدار ظرف فهي الدنيا ، أو مفعول به فهي الآخرة. والمعنى جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة لا شوب فيها وهي ذكراهم الجنة بحيث لا يشوبون ذكرها بشيء من هموم الدنيا ، أو هي تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها ، أو بسبب خلوص ذكرى الجنة ، أو بما خلص من ذكراها ، أو جعلناهم مختصين بخلة صافية عن المنقصات وهي الثناء الحسن في الدنيا ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم. و (الْمُصْطَفَيْنَ) جمع مصطفى وأصله مصطفيين لأنه في حالة الجر بالياء قلبت الياء